quot;الزلزال الأخلاقيquot;، الذي أحدثته quot;مذبحة كنيسة سيدة النجاةquot; وسط العاصمة العراقية بغداد، لم يهدأ بعد.اذ مازالت ارتداداته وتفاعلاته المحلية والإقليمية والدولية تتواصل.جريمة كبيرة وبشعة،هزت الضمائر الحية وفتحت الباب على تساؤلات مشروعة ليس حول مصير ومستقبل ما تبقى من مسيحيين في العراق فحسب، وانما حول مصير مسيحيي المشرق عموماً.هذه التساؤلات والمخاوف دفعت بالقيادة السورية لتنظيم quot;مؤتمر دولي للإخاء الاسلامي- المسيحيquot; في العاصمة دمشق على مدى ثلاثة أيام، بدأت جلساته في الخامس عشر من كانون الأول الجاري.

من غير أن نقلل من أهمية مثل هذه المؤتمرات في تفعيل وتعميق الحوار بين الأديان وتعزيز قيم ومفاهيم العيش المشترك بين أتباعها.لكن أعتقد بأن الشعوب المسيحية في الشرق سئمت من هذه اللقاءات التي غالباً ما تفتقر الى الشفافية والمصارحة المطلوبة في مقاربة الأسباب الحقيقة والجوهرية لتراجع وانحسار الوجود المسيحي في منطقة الشرق الأوسط.وكثيراً ما تخرج هذه المؤتمرات عن الأهداف والغايات التي عقدت لأجلها وتتحول الى مهرجانات خطابية يتبارى فيها الخطباء في مديح الحكام، والإشادة بالدور المتميز لمسيحيي المشرق في النهضة العربية والاسلامية، والمبالغة في وصف تعايش (اسلامي - مسيحي) هش،مهزوز في منطقة تخيم عليها أجواء التعصب والاحتقان الطائفي والمذهبي والاثني،وحيث أضحت quot;المسيحية المشرقيةquot;محاصرة ومهددة بالاقتلاع من الجذور بـquot;الأحزمة الاسلامية الناسفةquot; كتلك التي نسفت كنيسة سيدة النجاة وقتلت وجرحت العشرات من المصلين والكهنة.

حول هذه الاشكالية، يقول الكاتب السوري المعروف (غسان الامام)، في مقال له بعنوان( الإشكالية المسيحية: هاجس الحزام الإسلامي)،نشر في جريدة quot;الشرق الأوسطquot; اللندنية بتاريخ 2 فبراير 2010:quot;كان فارس الخوري رئيسا للحكومة الوطنية السورية، عندما نالت سورية الاستقلال، قاد النضال من أجل الحرية والاستقلال. شارك في صياغة ميثاق الأمم المتحدة. دمشق مدينة محافظة،عندما رأى مشايخها الدينيون ضرورة بناء مسجد يشكل حزاما إسلاميا في القصّاع المسيحي العريق، ضرب فارس الخوري مثالا في السمو الوطني والقومي، فوق العصبية الدينية. تبرع الرجل الكبير مجانا بأرض يملكها هناك، لإقامة المسجد عليها..quot;.يضيف:quot;رَحَلَتْ سنين الصفاء الديني والانسجام الاجتماعي. جاءت سنين الأحزمة المتزمتة والناسفة. لم أصدِّق عينيَّ، وأنا أقرأ الشيخ (علي الطنطاوي)،وهو رجل دين سوري مشهور. كتب يقول إنه يفضل أن يصافح مسلما إندونيسياً، على مصافحة المسيحي فارس الخوري..quot;.اليوم،رغم محاولات السلطة الحد من انتشار مظاهر الأسلمة والتدين في المجتمع السوري، بدأ يتغير نمط الحياة والعيش في سوريا باتجاه مزيد من التشدد الديني والأصولية الاسلامية والتشبث بالتقاليد والعادات والثقافة الاسلامية.هذا التحول اللافت في مزاج وميول الشارع الاسلامي السوري والمشرقي عموماً، يبدو أنه بدأ يقلق القيادة السورية.فقد اعتبر الرئيس (بشار الأسد) في مقابلة له مع قناة أمريكية،quot;أن التحدي الأكبر الذي تواجهه البلاد هو التطرف القائم في المنطقة والحفاظ على علمانية المجتمعquot;. وقبل أشهر، السيدة (بثينة شعبان)،المستشارة السياسية للرئيس، في لقاء لها مع quot;قيادة فرع دمشق لحزب البعث العربي الاشتراكيquot;،نبهت الى تغلل quot;الأصولية الاسلاميةquot; داخل صفوف البعث ذات التوجهات العلمانية وحذرت من مخاطر هذا التغلغل.

حقيقة،أن quot;المسألة المسيحية المشرقيةquot;قضية،بالغة الأهمية والحساسية، أعمق وأعقد من أن تحل عبر مؤتمرات ولقاءات بروتوكولية كرنفالية.أنها تتطلب أولاً وقبل كل شيء،حوار (اسلامي- اسلامي)،وليس (اسلامي- مسيحي)،لأن المشكلة هي في الجانب الاسلامي الرافض لقبول الآخر والعيش معه إلا بشروطه ووفق مفاهيمه هو.بصيغة أخرى،لا يوجد نزاع (اسلامي- مسيحي) حتى تلتقي وتتحاور الزعامات الروحية والزمنية الاسلامية والمسيحية في المنطقة،فالمشكلة هي لدى الطرف الاسلامي الغالب و الحاكم والمهيمن والمضطهد للمسيحيين.

ان ربط أو اختزال أسباب وظروف quot;أزمة مسيحيي المشرقquot;، التي تفاقمت في السنوات الأخيرة حتى أصبحت جزءاً من المشهد السياسي والأمني والاجتماعي للمنطقة، بملف (الصراع العربي الاسرائيلي) ومن ثم بـ(الغزو الأمريكي للعراق) والزعم بأنها من صنع الخارج، ما هي إلا محاولة مكشوفة، من قبل المشاركين في quot;مؤتمر دمشق للإخاء الاسلامي ndash; المسيحيquot; لتضليل الرأي العام والالتفاف على الأسباب الحقيقة لهذه الأزمة التاريخية المزمنة.طبعاً،هذه الرؤية أو المقاربة الغير موضوعية والغير بريئة لأزمة مسيحيي المشرق تتناغم وتتوافق مع رؤية وموقف القوميين العرب والاسلاميين ومن معهم من النخب المسيحية المشرقية المصابة بداءquot;العمى الايديولوجيquot; الذي يجعل من المصاب به يرى الواقع كما يرغب ويشتهي وليس كما هو على حقيقته.فضلاً عن أن هذه المقاربة المؤدلجة للأزمة تبرئ الحكومات العربية والاسلامية من مسئوليتها القانونية والأخلاقية والسياسية عن محنة مواطنيها المسيحيين.فقد اعتادت هذه الحكومات أن تجعل من الغربquot;شماعةquot; تعلق عليه كل أسباب فشلها وإخفاقاتها السياسية والاقتصادية والتنموية.

لا ننفي المضاعفات الخطيرة للاحتلال الاسرائيلي على شعب فلسطين.لكن لا يمكن اختزال أسباب الهجرة المسيحية من فلسطين(مهد السيد المسيح)، وانحسار وجودها في المناطق العربية، بظروف الاحتلال وحدها.اذ هناك عوامل وأسباب تتعلق بطبيعة المجتمع الفلسطيني الاسلامي الذي يتسم بالتشدد الديني،مثله مثل بقية المجتمعات الاسلامية المشرقية.وتتحدث تقارير من داخل قطاع غزة عن تراجع كبير في الحريات الدينية والاجتماعية، بعد انقلاب حركة حماس على السلطة وجعلها من القطاع أشبه بـ quot;إمارة اسلاميةquot;.ولا ننفي بأن المشهد العراقي الدامي الراهن، هو من إفرازات الغزو الأمريكي للعراق. لكن هذا المشهد ما كان له أن يحدث لولا وجود بيئة عراقية (دينية سياسية ثقافية اجتماعية مذهبية) مهيأة ومناسبة للاقتتال الداخلي بين شعوب وأقوام العراق.ثم من الخطأ التساوي بين قتل المسيحي وقتل المسلم في العراق، لأن أهداف وخلفيات وأبعاد هذا القتل ليست واحدة.كثير من دول وشعوب العالم وقعت تحت الاحتلال الأجنبي لكنها تجاوزت خلافاتها وتوحدت واتفقت على سبل مقاومة الاحتلال وأنجزت استقلالها الوطني بأقل الخسائر.ما يحصل في العراق هو أن بعض الجهات الاسلامية المتشددة والقومية الحاقدة أخذت من الاحتلال الامريكي ذريعة لتصفية وجود الكلدوآشوري والمسيحي والغير مسلم عموماً من بلاد الرافدين.ربما، ثمة مصلحة استراتيجية للغرب ولإسرائيل بخلو المشرق من مسيحييه.لكن هذا لا يعني أنهم المسئولون عن تهجيرهم من أوطانهم.فالهجرة المسيحية من المنطقة،وبغض النظر عن أسبابها، هي رغبة اسلامية قديمة وجديدة.هذا ما أفصحت عنه بعض القمم الاسلامية،منها quot;قمة لاهورquot; الباكستانية، التي أوصت بضرورة العمل على quot; افراغ المشرق العربي الاسلامي من مسيحييهquot;.وما تجاهل مؤتمرات quot;القمم العربية والاسلاميةquot; محنة مسيحيي العراق والمشرق وعدم اكتراث حكومات المنطقة بالهجرة المسيحية،إلا تعبيراً عن تخلي هذه الحكومات عن مواطنيها المسيحيين.انطلاقاً من هذه الحقائق التاريخية والوقائع السياسية والاجتماعية المعاشة، أرى أن quot;المسألة المسيحية المشرقيةquot;هي صناعة (عربية اسلامية) بامتياز.تساهم في صناعتها وإخراجها العديد من العوامل المحلية، منها:
- quot;الدستور الإلهيquot; للأمة الاسلامية، الذي لا يسمح بمساواة غير المسلم مع المسلم في الحقوق والواجبات.
- الموروث التاريخي(الثقافي والاجتماعي) المتخلف لشعوب المنطقة.
- الدساتير والقوانين الطائفية والعنصرية والشوفينية السائدة والمعمول بها في جميع الدول العربية والاسلامية الشرق أوسطية.
- طبيعة الأنظمة السياسية القائمة ونهجها الطائفي في الحكم.
- سياسات القهر والتمييز الديني والاجتماعي وفرض quot;الشريعة الاسلاميةquot;، بطرق وأشكال مختلفة،على المسيحيين وغير المسلمين عموماً.
-الاضطهاد السياسي والقهر القومي لمسيحيي سوريا وبلاد الشام والعراق ومصر، ومسيحيي بقية الدول الاسلامية الشرقية أوسطية،الذين يتحدرون من أصول غير عربية وينتمون الى قوميات وأعراق وثقافات مختلفة ومتأصلة في المنطقة،مثل الأقباط والأرمن والآشوريين (سريان/كلدان)،موارنة.
- التحالف التاريخي بين quot;الاستبداد السياسيquot; وquot;الاستبداد الدينيquot;، اللذان يشكلان عقبة أساسية في طريق قيام quot;دول مدنية ديمقراطية عادلةquot; في المنطقة.
- تنامي الاتجاهات والتيارات الاسلامية الأصولية والسلفية المتشددة التي تعمل لأجل اقامة quot;الحكم الاسلاميquot;في جميع دول ومجتمعات المنطقة تحت شعار quot;الاسلام هو الحلquot;.
- فتاوى التكفير والتحريم لبعض رجال الدين والأئمة والمشايخ.مثل فتاوى تحرم على المسلم التعامل التجاري مع المسيحيين بيعا وشراءً كما تحرم مشاركتهم في أعيادهم ومناسباتهم الخاصة أو تهنئتهم بهذه الأعياد.

هنا أتساءل:هل الاستعمار القديم والاحتلالات الجديدة، هي المسئولة عن هذه البيئة (القانونية والتشريعية والثقافية والسياسية والاجتماعية) المنتجة لأزمة مسيحيي المشرق؟.هل quot;مصرquot; دولة محتلة، حتى تستباح دماء مواطنيها الأقباط وكنائسهم وممتلكاتهم وتهان رموزهم ومقدساتهم الدينية في شوارع القاهرة والإسكندرية من قبل المجموعات الاسلامية المتشددة وبتواطؤ مكشوف وفاضح من قبل الأجهزة الأمنية والشرطة الحكومية؟.وهل الاحتلال الأمريكي للعراق مسئول عن إصدار مجلس محافظة بغداد ومجالس مدن عراقية أخرى قرارات وأوامر تقضي بإغلاق (النوادي الاجتماعية)وإقفال محال بيع المشروبات الروحية،أو عن قرار وزير التربية العراقي بإغلاق قسمي (المسرح والموسيقى) بمعهد الفنون الجميلة في بغداد؟.فهذه القوانين والقرارات الظلامية تأتي في إطار توجها رسميا ومدروساً للحكومة العراقية نحو التشدد الديني وتحويل العراق إلى quot;دولة دينيةquot; شبيهة بدولة طالبان في أفغانستان. شخصياً، لا أجد فارق نوعي كبير بين من يصدر الفتاوى التكفيرية الخانقة للحريات الدينية والاجتماعية والمنافية لطبيعة الكينونة البشرية، وبين الارهابي الذي يقتل المسيحي وغير المسلم على الهوية.كما لا أجد فارق نوعي كبير بين ذاك الارهابي الذي يفجر كنيسة وبين سلطة تقرر اغلاق نادياً اجتماعياً ترفيهياً تربوياً.فهذا وذاك وجهان لعملة واحدة.

آن الأوان لكي يصارح العرب والمسلمون أنفسهم والإقرار بمسئوليتهم التاريخية عن محنة مسيحيي المشرق.هذا الإقرار هو المدخل الصحيح والمقدمة الضرورية لمعالجة quot;المسألة المسيحية المشرقيةquot; على قاعدة المواطنة الكاملة والشراكة الحقيقة في هذه الأوطان،قبل أن تخرج هذه القضية الحساسة من أيديهم،مثلما خرجت قضايا مهمة أخرى، وقبل أن تعود من جديد quot;المسألة الشرقيةquot; التي برزت في منتصف القرن التاسع عشر.فقد ثبت تاريخياً،بأن الاقليات المحصنة وطنياً لن تتجاوب مع دعوات الخارج، بغض النظر عن هذا الخارج وأهدافه.لكن عندما تتخلى الدول والحكومات عن شعوبها وأقلياتها المستضعفة وتتركها لقمة سائغة وهدفاً مستباحاً لإرهاب منظم وعدوان ممنهج،مثلما يحصل لمسيحيي العراق،يبقى من حق هذه الأقلية أن تبحث عن من يحميها وينقذها.

يمكن للمسيحيين أن يبقوا في أوطانهم و أن تزدهر المسيحية في الشرق في حالتين:
الأولى: قيام quot;دول مدنية ديمقراطية ليبراليةquot; حديثة،تقوم على quot;مبدأ المواطنة الكاملةquot; وquot;فصل السياسية عن الدينquot;. دول لجميع أبنائها وتحترم quot;الانسانquot; كقيمة أخلاقية عالية وسامية،وتصون حقوقه وحرياته، بغض النظر عن انتماءه الديني أو القومي أو السياسي أو الإثني أو المذهبي.أن خيار quot;العيش المشتركquot;الذي ستضمنه quot;الدول المدنيةquot; هو أفضل الخيارات وأنسبها لمعالجة ليس quot;المسألة المسيحية المشرقيةquot; فحسب،وانما لمعالجة مشكلة جميع الأقليات الأخرى(الاثنية واللغوية والثقافية والمذهبية)التي تكتظ بها دول المنطقة.لكن للأسف، في ضوء الحالة العربية والاسلامية الراهنة،لا تبدو فرص قيام مثل هذه الدولة ممكنة ومواتية على المدى المنظور في المشرق العربي الاسلامي.

الثانية: نشوء quot;كيانات سياسية مسيحيةquot; مستقلة، على غرار quot;جنوب السودانquot;.لا جدال على أن هذا الخيار صعب وصعب جداً ومحفوف بالمخاطر الكثيرة.لهذا يبقى الخيار الممكن والأسهل والمتاح أمام quot;مسيحيي المشرقquot;هو الهروب من المنطقة وتركهم لأوطانهم الأم، بحثاً عن الآمان والاستقرار والحياة الأفضل،ولطالما باتوا أهدافاً مكشوفة ومستباحة للتنظيمات الاسلامية المجاهدة الارهابية، مثل quot;تنظيم القاعدة- فرع دولة العراق الاسلاميةquot;الذي تبنى المذبحة الوحشية في كنيسة سيدة النجاة. وهدد، في بيان جديد له، مسيحيي العراق بحرب شعواء quot;لا قبل لهم بهاquot;،ما لم يستجيب زعمائهم وقادتهم لمطالبه.بقي أن نشير الى أن quot;وثائق ويكيليكسquot; كشفت عن أن quot;تنظيم القاعدةquot; يتلقى الدعم والمساعدة من جهات ومنظمات ودول،عربية واسلامية،عديدة.

سوريا
باحث آشوري مهتم بقضايا الأقليات.
[email protected]