اولاً دعونا نعترف أن لجميع الأعياد عنوان واحد فقط وهو الفرح. ولهذا نرى المسيحيون يفرحون مع المسلمين في عيد الفطر السعيد ويبادل المسلمون اشقائهم المسيحيين الفرح في عيد الميلاد المجيد. ومن لا يفرح مع الفرحين وكأنه ليس من هذا العالم. كنا في ايام الصبا في القدس نمضي ليالي رمضان بعد الإفطار، مسلمين ومسيحيين، إما في مقهى زعترة في باب العامود أو مقهى صيام أو نستمع إلى الحكواتي وهو يروي لنا قصص عنترة بن شداد وابطال العرب. وكانت مشاركتنا لاصدقائنا المسلمين في الإفطار جزء من حياتنا اليومية في رمضان وكنا ننتظر عيد الفطر بشوق بالغ مثل اصدقائنا المسلمين.

والميلاد، عيد العطاء للفقير قبل اي انسان أخر، ورمضان ليس مجرد شهر الفرح بل هو في الأساس شهر الصوم والغفران والتعاطف مع الفقير والضعيف والمنكوب. ولكن الانسان يفرح في عيد الفطر لأنه قام بإداء واجباته الدينية والدنيوية على افضل وجه. وهكذا هو الحال مع عيد الميلاد حيث تُعطى الهدايا أولاً للفقراء والمشردين والضعفاء.
وهذه التقاليد العريقة يتوارثها الابناء عن الآباء ولهذا يبقى مجتمعنا الفلسطيني والعربي مجتمعا متماسكا وقويا رغم الدسائس والمؤامرات التي تحاك له. ولهذا ايضا نرى أن الحساسيات الدينية موجودة فقط في مخيلة الذين يريدون المتاجرة بالدين والشعوب والوحدة الوطنية.

اعياد الفرح، مثل الميلاد المجيد والفطر السعيد، هي التي تؤلف وتجمع بين قلوب الناس، ولا أخالني ارى رجلاً أو امرأة لاي ديانة إنتموا لا يفرحون مع طفل يحمل هدايا العيد والبسمة تعلو وجهه الملائكي، وكيف يكون الأمر اذا كان ذلك الطفل او الطفلة من ذوي الإحتياجات الخاصة أو من الجالسين على سرير الشفاء في المستشفى او من المقيمين في دار الايتام او من الذين يفتقدون أباً شهيداً أو معتقلاً أو مسافراً أو من الذين سلبهم المستوطنون اليهود منازلهم في الشيخ جراح أو سلوان أو الطور أو من حرمتهم الحياة من ابسط الأساسيات بسبب ظروف اقتصادية صعبة أو من قتلهم الإرهابيون في مجازرهم في المساجد والكنائس في العراق وغيره من الدول أو من مرض رب الاسرة او خسارة غير متوقعة في المصلحة التجارية العائلية أو بسبب مصائب الدهر والطبيعة.

رأيت في حياتي اناساً يبتسمون وهم يصارعون الموت ويتفاءلون وهم ينتظرون سيارة الإسعاف وسط الألم الشديد على قارعة الطريق بعد حادث سير مؤلم. وهناك أناس quot; لا يضحكون للرغيف السخنquot;، كما يقول المثل الشعبي الفلسطيني، وحالهم كقول الشاعر المهجري إيليا أبو ماضي : quot;ايهذا الشاكي وما بك داء كيف تبدو إذا غدوت عليلاquot;، لأنهم نشأوا على الشكوى التي تلازمهم حتى في اسعد اوقات حياتهم. من يرى الدنيا ظلاماً حوله في كل الأوقات هو فقط الذي لا يعرف معنى الفرح.

وقال لي اقرباء رجل في الخمسينات من عمره يمضي العيد في أحد المستشفيات أنه يضحك ويلاعب الأطفال في جناحهم غير مبالي في ما هو عليه. وإذا كان من الطبيعي ان يداعب ويبتسم المرء للأطفال فإن ما هو غير طبيعي أن الرجل كان يعاني من أمراض مزمنة مضنية. وسألتهم ا عن سر قوته فنقلوا عنه قوله أن الإنسان يستمد من الأطفال قوتهم الربانية و براءتهم وتفاؤلهم ولكن اهم من كل ذلك أن الطفل يذكّره دائما بالميلاد وان الحياة من دون ميلاد هي مثل ظلام ابدي.

من ذا الذي لا يبتسم لطفل في العيد وغير العيد؟ ومع ذلك فقد رأيت خلال زيارتي الأخيرة إلى القدس مستوطنين وهم يبتسمون بينما كانوا يطردون اطفالاً فلسطينيين باكين من منازلهم في الشيخ جراح في القدس. وتساءلت في نفسي ألم يكن هؤلاء المستوطنون اطفالاً في يوم من الايام أم أنهم ليسوا من طينة البشر؟ كيف يسمح قضاة يحكمون بإسم الشعب في اسرائيل لهؤلاء الإستئساد على الطفولة البريئة وعلى المسنين والمسنات. ألا يستحق اطفالنا ميلاد جديد لضمائر اوساط المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة ووضع حد لمهزلة وكارثة الإستيلاء على منازل الفلسطينيين في القدس!؟

ونستطيع أن نقول بكل تأكيد أن اعياد الميلاد والفطر وراس السنة والاضحى صارت الآن اعيادا عالمية ووطنية يحتفل بها الجميع، لا فرق في ذلك بين مسيحي ومسلم. والسبب واضح وهو أن الشعوب ترفض أن لا تفرح مع الفرحين. وقد عزز عولمة الميلاد أنه قريب من عيد رأس السنة الجديدة، وهوعيد عالمي وعلماني في المقام الأول.

من الواضح أن لعيد الميلاد جذوره المسيحية ولكن هذا العيد تطور ليصبح عيدا للجميع وهو لا يقتصر على الإحتفال بميلاد يسوع المسيح وإنما صار أيضاً عيدا لمن يحتقلون ببزوغ فجر جديد عنوانه السلام والوئام والمحبة بين شعوب الارض. اما بالنسبة لبابا نويل أو سانتا كلوز فهو مجرد رمز مرتبط اصلاً بعيد الميلاد ولكنه تحول إلى علماني بإمتياز، وهو بابا كل الاطفال ولا يفرق أو يميز على اساس الدين او العرق او الخلفية السياسية، ولهذا يتهافت عليه الأطفال من كل الخلفيات لتلقي الهدايا منه وإلتقاط الصور معه.
والميلاد هو مناسبة للعمل على صفاء القلوب ووحدة الرؤية الإستراتجية لمستقبل الوطن والعمل على نصرة المستضعفين بغض النظر عن إنتماءاتهم الدينية والقومية. حضرت مؤخرا في سدني حفلا أقيم بمناسبة عيد الميلاد وكان الحاضرون عرب من كافة الجنسيات. الحفل اقيم في مطعم عراقي يملكه مسيحي عراقي، وبالرغم من الجراح الناجمة عن مذبحة كنيسة سيدة النجاة في بغداد فقد غنّى صاحب المطعم للعراق ولفلسطين quot; فلسطين دولتنا والقدس عاصمتناquot;. وقال لي احد اصدقائه أن اقرباء له سقطوا في المذبحة. ومع ذلك وقف يعلن أن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا وان دماء الابرياء هي عمادة جديدة للوطن الجديد. هذا الموقف الوطني هو الرد على الذين يرفضون الوطنية بكل آفاقها ومعانيها. هذه هي روح الميلاد وهي رسالة تعلن بكل وضوح ان الشعب واحد والروح واحدة والمستقبل واحد.

لقد تابعنا منذ أكثر من شهر توالي إعترافات دول امريكا اللاتينية بفلسطين في حدود عام 67، ومن المتوقع ان تحذو بريطانيا ودول أوروبية اخرى حذو تلك الدول. لقد سئم العالم من المماطلة الإسرائيلية والإنهزامية الأمريكية وقرر أن يأخذ زمام المبادرة بمنأى عن المترددين والمشككين. العالم يعرف أن الوقت قد حان لولادة الدولة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس وهو يعرف أن المعاناة الفلسطينية قد طال أمدها وحان الوقت لوضع حد لها. زمن الميلاد هو افضل وقت لتبادل الهدايا، والفلسطينيون يستحقون أكثر من هدية، إنهم يبحثون عن حقوقهم ودولتهم، ولا شك أن العالم يدرك ذلك.

الميلاد يعني إنتصار الخير على الشر واحترام حقوق الآخرين، ويعني ايضا ولادة الروح العربية الجديدة المبنية على المساوة بين الجميع بعض النظر عن الدين أو القومية أو الميول السياسية، والمنزهة عن التعصب والتطرف. العالم يسير بسرعة البرق في إتجاه التقدم والتطور وعلينا أن لا نسمح للمتأخرين أن يؤخرونا معهم. إن إستعادة الفلسطينيين لحقوقهم وولادة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس هي الهدية الميلادية التي يستحقها الفلسطينيون عن جدارة في زمن الميلاد وفي كل الأزمان.

*إعلامي وكاتب عربي مقيم في استراليا