لكن حصلت فى التاريخ الإسلامى بعض الفرق المتعصبة التى تحكم بتكفير الآخرين رغم إسلامهم ثم أفتوا بوجوب قتلهم لكفرهم وخروجهم عن الملة والدين، ويعتقد الباحثون أن الظاهرة قد نشأت زمن الخوارج الذين كانوا فى صف الإمام على بن أبى طالب فى معركة صفين وبعد رفع المصاحف بفكرة من عمرو بن العاص حيث طلب حكم القرآن وأيده الخوارج لقوله تعالى (لا حكم إلا لله) فقد كانوا حفاظا للقرآن وذوى الجباه السود لكثرة صلاتهم وصيامهم وعباداتهم، وخير من وصفهم ابن عباس (رأيت جباها ذات ثفنات من كثرة السجود وأيادى كثفنات الإبل وعليهم لباس بال زهيد وهم مشمرون فى السجود والخضوع والبكاء والتسليم). ثم تحول هؤلاء الخوارج إلى قطاع طريق ونصبوا خيمة خارج المدينة لمنع المسلم من المرور حتى يكفر عليا ومعاوية فإن أبى يقتل، وقد قتلوا الكثير ومنهم صحابيا ثم بقروا إمرأته الحامل لأنهما رفضا تكفير علي، علما أن الخوارج مروا ببستان ومد أحدهم يده لقطف تمرة فاستنكروا جميعهم بشدة وعنف لأنها إعتداء على مال مسلم، وهو التعارض الصارخ بين استحلال الدماء وتحريم أكل تمرة. حاول الإمام علي محاورتهم قائلا (من علمكم قتل الناس على آرائهم) ليعلمنا حرية الآراء ولايجوز القتل على الرأى، فقالوا (قاتلك الله ما أفقهك، فنحن لا نؤمن بما تقول ولا نصلى خلفك) فقال (لكم كل ذلك، ولكم أكثر من ذلك) أى لهم حقوق الإعتراض عليه وعدم الصلاة وراءه فهى حقوق طبيعية ثم بدأ يعدد لهم حقوقا إضافية لايعرفونها، لكنه يتدارك فى وضع الحد الفاصل لحقوقهم قائلا (بينى وبينكم قتل الناس وظلمهم) أى لهم كل الحريات ما لم يعتدوا على الآخرين فى ظلمهم وقتلهم وعندها سماهم (أنتم شر الناس جميعا) لأنهم يستغلون الدين بأبشع وسيلة فى قتل أصحاب الأفكار الأخرى رغم وصيته بعدم قتالهم بعده (لا تقتلوا الخوارج بعدى لأنهم طلبوا الحق فأخطؤوه) رغم أن قاتله عبد الرحمن بن ملجم منهم قائلا وهو يضربه (الحكم لله لا لك يا علي) فى مسجد الكوفة وليلة القدر من شهر رمضان لاعتقادهم بتقربهم إلى الله فيها (ياضربة من تقى ما أراد بها إلا ليبلغ من ذى العرش رضوانا). لكن الحقيقة أن التكفير قد ظهر قبل الخوارج فى التعامل مع الخليفة الثالث عثمان بن عفان ومحاصرته وتكفيره ثم قتله بوحشية وهو يقرأ القرآن مع قطع أصابع زوجته وبقائه ينزف طوال الليل ثم منع دفنه فى مقابر المسلمين. وقد تم تكفير العلماء الكثيرين مثل ابن سينا لذلك أجابهم (ليس تكفيرى بسهل أو جزاف) بل كفر من قال بكروية الأرض أو حركتها أو ركوب السيارة أو الطيارة عند اكتشافها آنذاك متوهمين أنها من صنع الشيطان أو دول الكفر بسبب بعد الفقيه عن الواقع والحياة والعلوم الحديثة فهو يستغرق فى كتب قديمة وأمة قديمة ولغة مليئة بالتعقيد والإشكالات رغم تسطيحه للقضايا الإجتماعية والفكرية والفلسفية والعلمية ومن الملاحظ غرابة فتاوى البعض حول الأمور العصرية كالإستنساخ والتلقيح و(تبديل رأس الرجل برأس دابة) وما سمى بالفقه الحديث.أما المثقف فهو يعاصر الواقع وتحديات همومه وتطلعاته والعصر الحديث فيكون أكثر واقعية وموضوعية مع العصر ومعارفه وتحدياته لكن بعضهم ربما يسطح التراث والتاريخ ويغفل آثارهما. وفى التاريخ حتى يومنا المعاصرنماذج كثيرة فيما حصل لتكفير بعض الفرق الأسلامية الفقهية والكلامية، كالمعتزلة وما حصل لإخوان الصفا ومذابح قصة خلق القرآن، وكذلك تكفير الجاحظ وأبي حيان التوحيدى ونصر حامد أبى زيد وطه حسين وأمين الخولى ومحمد أحمد خلف الله وفضل الرحمن ومحمد أركون وحسن حنفى ومحمد عابد الجابرى ومحمود طه وعلى الوردى وعلى شريعتى والمعرى والمتنبى والرصافى والجواهرى ونزار قبانى ونازك الملائكة وبدر شاكر السياب وابن عربى والقائمة طويلة جدا. ولقد أجاد نصر حامد أبو زيد فى كتابه (التفكير فى زمن التكفير) ضد الجهل والزيف والخرافة حيث جعل زماننا العصيب لتكفير المفكرين شارحا محنته الشخصية فيما عاناه من فتاوى تكفيره دون مناقشته ومحاورته ثم تطليق زوجته إبتهال يونس فى مصر لتلحقه إلى هولندا وهو يدرس فى جامعة لايدن، علما أن مشكلته الحقيقية تكمن فى إعادة قراءة النص ومحاولة تحريره من القراءات الكلاسيكية التقليدية المكررة نحو أفق رحب يناغم العصر وعلومه مستفيدا من أدوات معرفية وعلوم حديثة كما نطالع فى كتبه وأبحاثه مثل (الإمام الشافعى والوسطية) (إشكاليات القراءة وآليات التأويل) (المجاز فى القرآن عند المعتزلة) (هكذا تكلم ابن عربى) لذلك يقول أبو زيد فى مقدمة كتابه عن التكفير (من المخجل أن يوصف بالكفر من يحاول ممارسة الفكر وأن يكون التكفير هو عقاب التفكير وأن تتحول الجامعة مكان المعرفة والعلم والأفكار إلى جامع وتحولوا معها إلى وعاظ فى نار الإسلام السياسى.. خطابى يهدد خطاب الإسلامويين لأنى أحلله وأكشف النقاب عن الخطأ والتلاعب فى خطابهم السياسى وإنهم يعلمون أنى لست مرتدا ولايوجد فى كتبى دليل واحد على ذلك أبدا). ومن هنا يظهر الجدل بين المثقف و الفقيه، فالمثقف له دوره المعرفى العلمى كما قال سيمور مارتن وريمون أرون ودور آخر كناقد ومقيم كما قال كارل مانهايم، فقد يعترض الفقيه الذى يريد احتكار فهم النص وتأويله ولايسمح بالنقد حتى لفقهاء آخرين عند المزاحمة فى السلطة والنفوذ وهو ما حصل لفقهاء وأئمة مذاهب على مر التاريخ. إن الفتاوى التكفيرية عادة ما تحمل دوافع سياسية خوفا من الفكر والثقافة والوعى لكنها تؤطرها بجانب دينى وقدسى حيث لايمكن أن تصارح الناس بدوافعها السياسية الحقيقية فإن الناس بطبيعتهم العاطفية فى مجتمعاتنا يتحمسون ويتفاعلون مع الدوافع الدينية بشكل أكبر وأبلغ من دوافعها السياسية الحقيقية كما ذكر على الوردى وعلى شريعتى. والحقيقة المهمة أنه كلما منع التفكير والعقل والنقد انتشر التكفير والتعصب والجهل لذا تظهر الحاجة إلى النقد الموضوعى الهادف فى حركة الفكر والثقافة والنقد فى تلاقح أفكار لزوميات المعرى وحكمة المعتزلة وتفكير أبى زيد وطواسين الحلاج وفتوحات ابن عربى وأدب طه حسين ووعاظ الوردى وأنسنة أركون وردود الجاحظ ورسائل إخوان الصفا وإشارات أبى حيان ولغة الخولى وفلسفة ابن رشد ونقد الجابرى وحداثة فضل الرحمن من أجل حركة العقل والفكر فى رحاب آفاق الإبداع والتقدم والرقى.
هنالك تعارض بين ظاهرتين واسعتين ومؤثرتين فى المجتمعات والثقافات وهما ظاهرتا التكفير والتفكير حيث أن من يفكر لايكفر ومن يكفر لايفكر عادة، التفكير يقدم الحياة والتكفير يقدم الموت لأن المفكر بطبيعته الثقافية لا يحتاج إلى التكفير فهو يستعمل عقله وفكره وثقافته لكن التكفيرى لايمتلك القدرة الفكرية والحجة البالغة والدليل المقنع فيلجأ كعاجز منغلق خوفا من الفكرة وأثرها إلى التسقيط والتكفير والحكم بالإلحاد والزندقة والخروج عن الدين ثم تحليل ماله وعرضه ودمه وإحراق كتبه، وهى سيف شاهر ضد المفكرين والمثقفين والأدباء والمصلحين على مر التاريخ لمحاربة الفكر والثقافة والأدب عندما تنقد وتزاحم أصحاب السلطة والنفوذ من السلاطين ووعاظهم فالتكفير لايخلو من عوامل سياسية وإجتماعية وإقتصادية. وكلما منع الفكر والعقل والإنفتاح زاد التكفير والتعصب والجهل والإنغلاق والتطرف فالمفكر والمثقف يحاول الإنطلاق فى الثقافة والفكر إلى أفق أرحب فى عالم المعرفة والعلوم العصرية والحضارة البشرية والتجارب الإنسانية لمعالجة أزمات مجتمعاتنا فضلا عن قيمة التحاور والتعايش والإنفتاح مع الآخر فى حوار الأفكار وتلاقح العقول وتكامل الثقافات بعكس الثانى الذى يضيق صدره من فكر أو ثقافة أو طرح أو نقد ليعيش الإنغلاق والمحدودية وضيق الأفق، رغم أن القرآن الكريم يحمل عشرات الآيات التى تدعو إلى التفكير والعقل والتدبر والتأمل (أفلا يعقلون) (أفلا يتدبرون) بل الحرية للآخر (لا إكراه فى الدين) (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) (لكم دينكم ولى دين) (عليكم أنفسكم لايضركم من ضل إن اهتديتم) كذلك الحوار مع الآخر (إنا أو إياكم لعلى هدى أو فى ضلال مبين) (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) حتى أن الله تعالى قد حاور الشيطان مرارا فى القرآن، وقد سأله الشيطان (أنظرنى إلى يوم يبعثون) فأجابه تعالى (إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم) وحاور موسى فرعون وإبراهيم نمرود، كما رفض القرآن التحجر الفكرى (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لايعقلون) (قل هل يستوى الأعمى والبصير أفلا تتفكرون) ورفض تقليد الآباء دون تدبر (قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباؤنا أولوا كان آباؤهم لايعقلون شيئا..) بل دعى إلى التأمل حتى فى النص الإلهى (أفلا يتدبرون القرآن) وبشر أصحاب العقول والأفكار (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب).
- آخر تحديث :
التعليقات