بعد نكسة حزيران المدوية خرج جمال عبد الناصر عن صمته، برجولة ونزاهة، ليعترف بأخطائه، ويتحمل مسؤولية النكسة كلها، ولا يلقي بها على غيره من أعوانه، أو على الظروف، والإمكانات، والخيانات. قال لمواطنيه إنه قرر أن يتنحى كليا ونهائيا عن أي منصب رسمي أو أي دور سياسي وأن يعود إلى صفوف الجماهير.

وحين علم، بعد عودته عن قرار التنحي، بأن أم كلثوم حزينة ومعتزلة قرر أن يخرجها من عزلتها، ويعيدها إلى الغناء من جديد. حدثها عن طموحه في تجاوز ظروف النكسة، ومداواة الجماهير، وإعادة ترميم الشخصية المصرية، وتحفيز المجتمع المصري والعربي معا على قبول حرب النفـَس الطويل لاستعادة الأرض والكرامة، وأكد لها أن جزءا كبيرا من المهمة تقع على عاتق الفنانين والمثقفين. فردت عليه بأن لديها أغاني وطنية عديدة، قال لها، ولماذا وطنية؟، إننا نريد إعادة البسمة إلى شفاه المواطنين، وإشاعة الفرح في نفوسهم، وهذا لا يحققه السياسي أو العسكري، بل المبدع في جميع المجالات والاختصاصات.

طبعا لم نتوقع أن يصبح المالكي جمال عبد الناصر، لا في روحه ولا قلبه ولا عقله، ولا في سعة صدره وفهمه العميق لدور المثقف والفنان. خصوصا ونحن نعرف أنه خارج من دائرة فكر أصولي سلفي مغلق، وقد رأيناه (يطنش) عن سلوك جماعته في بغداد والبصرة وكربلاء والناصرية وغيرها، ويُقرهم على مواقفهم العدوانية المتطرفة من الموسيقى والغناء والحريات الأخرى المدنية، ولكننا توقعنا فيه الحد الأدنى من الفطنة السياسية الواقعية فيدرك عمق الظلام الذي كلكل بسواده على قلوب العراقيين ونفوسهم وأبصارهم وشفاههم، بسبب إخفاقات حكومته السابقة، وتصرفات حلفائه الإسلاميين، وفساد كثيرين من معاونيه ومستشاريه، ثم يدرك أيضا أن ما يحمي سلطانه ويديم كرسيه ويقربه من الجماهير هو توفير الظروف والأدوات الحقيقية الفاعلة القادرة على إعادة ترميم الشخصية العراقية المهدمة، أولا وقبل أي شيء آخر، وتنقيتها مما علق بها من أدران العنف والضغينة والأنانية والفساد. وهذا يتطلب طوفانا من الأبداعات الفنية والأدبية في جميع المجالات، لإعادة الثقة إلى الإنسان العراقي ليكون عنصرا مشاركا بفاعلية في إنجاز المهام والإصلاحات المطلوبة الأخرى، أمنيا واقتصاديا وسياسيا. وأن العبء الأكبر في تحقيق ذلك يقع على وزارات الثقافة والتربية والتعليم، أكثر من وزارات النفط والداخلية والدفاع.

لكن السيد المالكي في اختياره لقادة وزارات الثقافة والعلوم والفنون أثبت أن همه ليس إعادة بناء الإنسان العراقي، بل ترضية الطوائف والفئات والأحزاب والمليشيات، لضمان استمراره في السلطة، بأي ثمن، وبأية تضحية، وبأية وسيلة.

ونظرة عاجلة على تشكيلة وزارته كافية لتقنع أغبى محلل سياسي مبتديء بأنها خلطة لئيمة بين سمك ولبن، وتوليفة غبية بين أفاعٍ ٍ وبُطنج (نعناع بري)، وهو، رغم كل ذلك، يريد أن يقنعنا بأنها هي الحكومة الوطنية المطلوبة للمرحلة القادمة التي سترفع الزير من البير، فتحقق الأمن والاستقرار والبناء والاستقلال والرخاء للعراقيين، لأنها، في نظره، تضم ممثلين عن جميع المكونات والأحزاب. أما الكفاءة والنزاهة والخبرة فأمور لم تخطر على باله، ولا على بال غيره من رؤساء التجمعات والتنظيمات والمليشيات الذين وزروا أبناءهم وأبناء عمومتهم وأقربَ أتباعهم إلى قلوبهم وجيوبهم، مع الأسف الشديد.

في إعلانه عن برنامج حكومته أكد المالكي quot; أنه سيقوم بدعم الإعلام وتمكين الإعلاميين العراقيين من أداء دورهم الرقابي المسؤول بحرية وظروف أمنية مناسبة، وتعزيز دور الصحافة في بناء الدولة وإصلاح المجتمع باعتبارها سلطة رابعة. وأكد إحترام التعددية الإعلامية وحرية التعبير واعتبارهما ركيزتين أساسيتين لدعم العملية السياسية والتجربة الديمقراطيةquot;.

كما تعهد بتقديم quot; الدعم اللازم للأدباء والمثقفين والفنانين والشعراء والرواد والمبدعين في جميع المجالات والتخصصات العلمية والفنية، من أجل الإرتقاء بالنتاج العلمي والفكري والإنسانيquot;. وقال إن حكومته quot; ستسعى إلى بناء المؤسسات الثقافية وتوسيعها في عموم البلاد ودعم الأنشطة الثقافية المختلفة على قاعدة حرية الفكر والإلتزام بالضوابط الدستوريةquot;.

هذا كله كلام جميل. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو، كيف يحقق ذلك وبأية أدوات وبأية صيغة؟

فتعيينُ سعدون الدليمي، مثلا، قائدا لثقافة العراق وعمقها وتنوعها وثرائها، ليس أسوأ من منح الحقائب الوزارية التربوية والتعليمية الأخرى لأشخاص عينتهم أحزاب منغلقة على فكر سلفي متخلف واحد لا يختلف عن فكر أعضاء مجالس محافظات بغداد والبصرة وكربلاء، ممن لا وجود في عقولهم وقلوبهم غير فنون اللطم وثقافة التكفير.

وبهذا لا يكون برنامجه الوزاري الفضفاض الزاهي الحالم الذي أعلنه على الشعب العراقي، بعد مخاض عسير وطويل، أكثر من برقع ٍ زاه ٍ وجميل وأنيق على عروس قبيحة شمطاء، هي أقرب إلى صنف الرجال منه إلى معشر النساء.

فكل وزير من وزرائها جاء من حزب أو من تيار يختلف كليا ونهائيا، فكريا ونفسيا وعقائديا، عن شريكه الآخر في المواقع العليا من السلطة وفي البرلمان والحكومة، ووراء كل واحد من وزرائه دولة شقيقة أو صديقة تمده بالقوة والجرأة والعناد ليكون أكثر استقلالا في تسيير دفة وزارته، حتى لو خالف برنامج الرئيس وأوامره وقراراته. وإذا كان المالكي اشتكا كثيرا من وزراء في حكومته السابقة لم يستطع تغييرهم ولا محاسبتهم ولا حتى مساءلتهم في أخطاء ومخالفات كبرى مهينة لأن يده كانت مغلولة بنظام المحاصصة، فإنه في وزارته الجديدة أكثر ضعفا وأكثر اضطرارا إلى مجاملة الأحزاب والتيارات التي لم توافق على إعادة توزيره إلا بطلعان الروح.

ولا نظن أنه يملك الرغبة ولا الإرادة ولا الشجاعة في طرد وزير يثبت فيه فسادٌ أو قلة ُكفاءة أو سوء ذمة وضمير. وأم كلثوم لن تغني في العراق، وجمال عبد الناصر لن يجلس على كرسي نوري المالكي، لا في القريب ولا في البعيد، مع الأسف الشديد.