عادل الطريفي
في الماضي كانت كلمة laquo;المخابراتraquo; تكفي للتعبير عن كل ما هو مخيف وغامض؛ إذ يكفي مجرد الإشارة إليها لإشاعة الخوف والرعب في النفوس في كثير من بلدان العالم العربي. فجهاز المخابرات العامة كان هو سيد الأجهزة الحكومية الذي يمتلك موازنات عالية، وتخضع لسطوته بقية أجهزة الدولة ومؤسساتها. كان يمكن في بعض الدول، التي تمتلك القليل من مساحة الرأي، أن تنتقد تقصير بعض الوزارات وأخطاءها، لكن التعرض لجهاز المخابرات بمثابة التعدي على المحرمات؛ لأنه تعرض للجهاز الذي من مسؤوليته حماية أمن الدولة تجاه المؤامرات الخارجية.
في مرحلة الحرب الباردة عاشت أجهزة laquo;المخابراتraquo; أحلى أيامها وأكثرها إثارة؛ فقد كانت مرتبطة مباشرة بهرم السلطة، وتعطَى من الحقوق والصلاحيات ما لا يعطى لغيرها. وبالفعل كانت أجهزة المخابرات تقود استراتيجيا وعمليا - بشكل سري - سياسة الدولة خارجيا.. أما اليوم، فإن الواقع قد تغير بشكل كبير، حتى بات البعض يتساءل: هل تملك أجهزة المخابرات أي كفاءة لمواجهة التحديات التي تطال الأنظمة السياسية الحاكمة، فضلا عن أمن الدولة ومواطنيها ضد مؤامرات الخارج؟
خلال العام المنصرم، أعلنت كل من مصر ولبنان اعتقال خلايا تجسس إسرائيلية، وفي البحرين والكويت خرجت تصريحات رسمية تعلن الكشف عن خلايا تعمل لصالح الحرس الثوري الإيراني، أيضا في العراق اتهمت حكومة المالكي دولا إقليمية بالوقوف وراء حوادث الإرهاب - لا سيما استهداف المسيحيين - وحمَّلت إيران دولا إقليمية كذلك المسؤولية عن تفجيرات ذات طابع طائفي وديني. الخلاصة من ذلك كله أن هنالك فشلا استخباراتيا لدى عدد من دول المنطقة في مواجهة التهديدات الجديدة، ويمكن القول: إن سلاح الإرهاب الذي يستهدف إثارة النزاعات الطائفية، والإثنية، والدينية قد نجح في كشف عجز المخابرات، ولهذا أسباب عدة، أبرزها: أن أجهزة laquo;المباحثraquo; في أكثر من دولة عربية قد استبدلت تدريجيا أجهزة laquo;المخابراتraquo; من حيث الأهمية، حتى إن جل النجاحات النسبية في الكشف عن بعض المخططات الإرهابية كانت على يد أجهزة أمنية لم تكن المخابرات اللاعب البارز فيها. خذ مثلا: خبر خلية التجسس الإسرائيلية في لبنان؛ حيث إن الذي كشف عن الخلية - المزعومة - هو عناصر حزب الله، الذين بادروا إلى اختطاف المتهمين، وانتزاع اعترافات منهم قبل أن يقوموا بتسليمهم إلى أجهزة الأمن اللبنانية، وكل ما يملكه الإعلام عن هذه القضية هو رواية حزب الله فقط.
في موضوع نشرته صحيفة laquo;هآرتسraquo; الإسرائيلية، في 29 أكتوبر (تشرين الأول) 2010، عن تراجع مستوى بعض أجهزة المخابرات العربية وكفاءتها، يشير ولهلم ديتل، عميل المخابرات الألمانية السابق، ومؤلف كتاب laquo;جيوش الظل.. أجهزة الاستخبارات في العالم الإسلاميraquo; (2010) إلى أن أجهزة المخابرات العربية كانت ولا تزال مهمومة في حماية الأنظمة السياسية الحاكمة بشكل مباشر؛ بحيث فقدت فعاليتها في عصر الإرهاب؛ حيث إن التهديد ليس موجها - في الغالب - ضد سلامة الرؤساء ورموز النظام، بقدر ما يستهدف زعزعة الاستقرار المدني، وإثارة الفوضى في وجه النظم السياسية. الذي يقرأ كتاب ياكوف كاروز laquo;الاستخبارات العربيةraquo; (1976) يدرك كم كانت لهذه الأجهزة أدوار فاعلة خلال الحرب الباردة، حينما كان استقرار النظام مرهونا بحمايته من تدخلات المعسكر المقابل، لكنها اليوم أصبحت متأخرة، وأحيانا غير مدعومة ماديا بما فيه الكفاية لشراء العملاء، وإدارة المؤامرات.
البعض قد يدافع بأن تراجع أداء أجهزة المخابرات العربية قد لا يختلف عما يحدث في أماكن أخرى من العالم؛ حيث فشلت أعتى أجهزة المخابرات العالمية الـlaquo;سي آي إيهraquo; في حماية أسرار أميركا، والحيلولة دون وصول بعض العمليات الإرهابية إلى مراحل متقدمة قبل أن تكشف عن طريق الصدفة. أمثلة ذلك كثيرة: العملية التي حاول بها شاب نيجيري تفجير طائرة، ثم كانت هناك محاولة شاب باكستاني تفجير شاحنة في تايمز سكوير، وغيرهما. حادثة مثل تفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية هي أيضا حادثة كان من الصعب اكتشافها؛ لأنه ليس بوسع مؤسسات الدولة الأمنية أن تحمي أي مجموعة من المواطنين من كيد عناصر متطرفة تعمل تحت الأرض. الفرق بين المخابرات الأميركية والإسرائيلية والإيرانية، من جهة، ومخابرات بعض الدول العربية، من جهة أخرى، بسيط.. المجموعة الأولى تتعثر وترتكب مجموعة كبيرة من الأخطاء والجرائم، لكنها في النهاية تعمل بلا كلل، ولديها تخطيط واضح، وأجندة تعمل على تنفيذها. أما المجموعة الثانية، فقد فقدت كل رغبة في التحرك والمغامرة، وهي بلا مشاريع مؤثرة، أو أجندة فاعلة. متى آخر مرة سمعت حديثا ذا قيمة، أو رسائل سياسية ذكية على لسان مسؤول مخابرات عربي؟!
حقيقة.. تراجع أداء أجهزة المخابرات له آثار سلبية، فقط تأمل العجز الفاضح لهذه الأجهزة في مواجهة إيران وحلفائها، أو ملف الإرهاب، ونحن هنا لا نقصد المواجهة الداخلية بل الخارجية. في عام 1979 أثار غزو الاتحاد السوفياتي لأفغانستان مخاوف بعض الدول العربية؛ لأن نجاح التمدد الشيوعي هناك سيقود بالضرورة إلى انقلابات إقليمية مدعومة من قبل المعسكر الشرقي. ولهذا تضافرت جهود تلك الدول نحو التحرك بشكل مباشر للتدخل في أفغانستان بالتعاون مع أميركا وبريطانيا. النتيجة أن مخابرات تلك الدول انخرطت بشكل فعلي على الأرض لمقاومة التمدد الشيوعي، واستخدمت كل الوسائل الدينية والاجتماعية والمادية لتجنيد مواطنيها في تلك المواجهة.
اليوم، نجد مخابرات بعض الدول العربية تعيش على رد الفعل، ولا دور فعليا لها على الأرض، وإذا كانت وثائق laquo;ويكيليكسraquo; قد كشفت شيئا، فهو أن بعض الدول العربية المجاورة لبعضها البعض لا تتكلم في الحقيقة ولا تتعاون فيما بينها. تأمل الدور الذي لعبته مخابرات المحور الإيراني - السوري ووكلائهما في العراق، ولبنان، والأراضي الفلسطينية، وأذكر مثالا واحدا في مقابله على نجاح أي دولة عربية في مزاحمة ذلك المحور في أي من تلك الساحات، بل على العكس استطاع إعلام laquo;المقاومةraquo; العمل على تشويه صورة بلدان رئيسية في المنطقة، واتهامها بالوقوف وراء الإرهاب على الرغم من كل جهودها الكبيرة في مكافحته.
ما نود أن نقوله هو أن من يريد أن يواجه الإرهاب في الإسكندرية، أو الرياض، أو عمان، أو صنعاء، كان عليه أن يواجهه في بغداد، وكابل، ومقديشو، وغزة، وبيروت، لا أن يترك الساحة حكرا لأجندة الآخرين. إن الحياد السلبي تجاه ملفات حساسة وخطيرة قد أدى في النهاية إلى أن يطال الشرر تلك الأنظمة التي لا تتحرك لصيانة مصالحها الوطنية.
التعليقات