تحريم الاعتداء على دور عبادة غير المسلمين، هو محل اعتبار بين أهل العلم. بل ذهب القرآن الكريم إلى تقديم رعاية تلك الدور على المساجد، وعدم ترويع الآمنين فيها، أو تهديدهم: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا).

وفي السنن الكبرى، يوصي أبو بكر أمراءه، فيقول: laquo;ولا تغرقن نخلا، ولا تحرقنها، ولا تعقروا بهيمة، ولا شجرة تثمر، ولا تهدموا بيعة، ولا تقتلوا الولدان ولا الشيوخ ولا النساء، وستجدون أقواماً حبسوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما حبسوا أنفسهم لهraquo;.

ومن يستعرض أقوال أهل العلم من المذاهب المختلفة، سيرى كيف أن الإسلام أقر حقوق أهل الذمة، وأحاطها بضمانات متعددة، ومن ذلك:

ما ذهب إليه الحنفية: من أن البيع والكنائس القديمة في السواد والقرى، لا يتعرض لها، ولا يهدم شيء منها. قال الكمال بن الهمام: laquo;إن البيع والكنائس في السواد، لا تهدم على الروايات - كلها -raquo;.

وذهب المالكية: إن الكنائس القديمة تترك لأهل الذمة، فيما اختطه المسلمون، فسكنوه معهم. قال شهاب الدين القرافي: laquo;إن عقد الذمة يوجب حقوقاً علينا؛ لأنهم في جوارنا، وفي خفارتنا، وذمتنا، وذمة الله - تعالى -، وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ودين الإسلام. فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء، أو غيبة في عرض أحدهم، أو أي نوع من أنواع الأذية، أو أعان على ذلك، فقد ضيع ذمة الله، وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وذمة دين الإسلامraquo;.

وذهب الشافعية، إلى: أن الذي يوجد في البلاد، التي أحدثها المسلمون من البيع، والكنائس، وبيوت النار، وجهل أصله لا ينقض؛ لاحتمال أنها كانت قرية، أو برية، فاتصل بها عمران ما أُحدِث مناraquo;.

وذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، إلى: أنه لا يمنع أهل الذمة من رم ما تشعث من الكنائس، والبيع، ونحوها، التي أقر عليها، وإصلاحها؛ لأن المنع من ذلك، يفضي إلى خرابها، وذهابها فجرى مجرى هدمهاraquo;.

وقال ابن حزم - الفقيه الظاهري -: laquo;إن من كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج؛ لقتالهم بالكراع، والسلاح، ونموت دون ذلك؛ صوناً لمن هو في ذمة الله - تعالى -، وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإن تسليمه دون ذلك، إهمال لعقد الذمةraquo;.

- وما عدا ذلك -، فقد قرر الفقهاء: أن أهل الذمة في البيوع، والتجارات، وسائر العقود، والمعاملات المالية كالمسلمين، ولم يستثنوا من ذلك إلا عقد الربا، فإنه محرم عليهم كالمسلمين، وقد رُوِي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كتب إلى مجوس هجر: laquo;إما أن تذروا الربا، أو تأذنوا بحرب من الله ورسولهraquo;. كما يمنع أهل الذمة من بيع الخمور، والخنازير في أمصار المسلمين، وفتح الحانات فيها؛ لشرب الخمر، وتسهيل تداولها، أو إدخالها إلى أمصار المسلمين على وجه الشهرة والظهور، ولو كان ذلك؛ لاستمتاعهم الخاص، سدًا لذريعة الفساد، وإغلاقًا لباب الفتنة.

بعد استعراضنا لهذا العدد الكبير من أقوال علماء الإسلام، المتفقة في هذه المسألة، لا يجب أن نخضع الواقع للقاعدة، بل علينا أن نخضع القاعدة للواقع. ويتضح هذا جلياً من خلال النظر إلى فداحة الاعتداء الذي وقع - قبل أيام - في بغداد، على كنيسة laquo;سيدة النجاحraquo;، وراح ضحيته أكثر من ستين شخصاً، بالإضافة إلى عدد من الجرحى. وما أتبعه من تهديد صدر من تنظيم القاعدة، باستهداف الكنيسة القبطية في مصر، هو - بلا شك - جرائم لا يقرها الإسلام. ولا تتوافق بأي شكل من الأشكال، مع مبادئه جملة وتفصيلاً. فالجرائم لا تبرر بجرائم، مع التأكيد على صعوبة الخوض في مثل هذه الأحكام من قبل الأفراد، فهو من أصعب الأبواب من جهة الفهم، أو من جهة التطبيق. مع اعتقادي: أن ملابسات تلك الأحداث والأعمال اللاإنسانية، وإن اختلفت منطلقاتها السياسية، وظروفها المصلحية من وقت لآخر، إلا أن مؤداها واحد، هو: الإرهاب والتطرف.

- قبل أيام - أشار مدير حملة السكينة لمكافحة الفكر الضال إلكترونياً، الأستاذ عبد المنعم المشوح، إلى بحث مفصل نشره الموقع للباحث المصري هاني نسيرة، بعنوان: laquo;حرمة الاعتداء على دور العبادة في الإسلام بين الإجماع الإسلامي وشذوذ القاعدة وتناقضهاraquo;. خلص - الباحث - من خلاله، إلى أن هناك أخطاء منهجية، وأصولية عميقة في الموقف من أهل الذمة، وحقوقهم، ومعابدهم، وواجباتهم، يقع فيه المتشددون - قديماً وحديثاً -، من أبرزها:

أولاً: تنتج عن الخلط بين حالة الذمة، وحالة الأمن، والحرب، والخروج، التي اشتد فيها الإسلام، حتى على الخارجين من المسلمين، باعتبارها هرجاً، ومرجاً، وفتنة مكروهة.

الثاني: تصور ومظنة، أن الشدة وسوء المعاملة، ستضطر هؤلاء؛ للتحول للإسلام، أو تضطرهم؛ لترك دينهم، وهو مدخل لا أخلاقي، ولا إسلامي، يترفع الإسلام عنه، كما ترفع عنه السلف الصالح - رضي الله عنهم -، فقد أكرم النبي - صلى الله عليه وسلم - أسرى طيء، وأكرمهم؛ لكرامة حاتم الطائي، الذي كان على نحلة من نحل المسيحية، وقال فيما صح عنه - صلى الله عليه وسلم -: laquo;إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاقraquo;..

الثالث: خنق الأقليات غير المسلمة في المجتمعات الإسلامية، بالصراع مع الغرب والولايات المتحدة، واتهامها بأنها: تابعة لهم. وهو ما يعني، تعميم صورة العدو الخارجي على الداخل، وإن كانت هناك حوادث عارضة لبعض المسيحيين، أو اليهود في دعم قوات الاحتلال، فإن الغالب والسائد تاريخياً، هو تجرد وانتماء هؤلاء للدولة الإسلامية منذ قديم، ودفاعهم عن الأرض كوطن لهم، فضلاً عن أن إحساس الأمان، والعدل الذي عرفه هؤلاء في ظل الإسلام، ولم يعرفوه من الأديان الأخرى، فضلاً عما بينهم من خلاف، جعلهم أقرب للمسلمين من المحتل - دائماً -، هكذا هاجر وخرج اليهود مع المسلمين من الأندلس؛ خوفاً من بطش القوط والكاثوليك، بقيادة laquo;فرديناندو وإيزابيلاraquo; الكاثوليكيين، وخرج فيهم - الحبر اليهودي - ابن ميمون، الذي هاجر إلى مصر، وكان في حماية - السلطان - صلاح الدين الأيوبي، وجوار - القاضي - الفاضل ابن نباتة، وهكذا كان كثيرون، وكثيرون من المسيحيين العرب في معركتهم ضد الاستعمار، والاحتلال لمن يقرأ التاريخ!..

الرابع والأخطر: يعد المصدر الرابع أخطر مصادر اضطهاد المسيحيين - عامة -، وهو ما تستند إليه الجماعات الإسلامية المتطرفة، والتي تنسب للجهاد تشويهاً، وهو جعلها استهداف الأقليات الدينية، ومعابدهم، ومصالحهم جزءاً من أوراق ضغطها على الأنظمة، من جهة. وجزءاً من سعيها؛ لجر الشعوب للحرب الدينية الشاملة، فالقاعدة ترى الحرب مع الغرب، حرباً صليبية صهيونية، فيحاولون استهداف هؤلاء تخوينا لهم، وتفجيرا للمجتمعات..

أرجو أن أكون وفقت في نقل فكرتي، ووجهة نظري دون لبس، أو سوء فهم. فالابتعاد عن كل الأسباب المؤدية إلى الفتن الطائفية، خاصة في المجتمعات متعددة الأقطار، كمصر، والسودان، ولبنان. مع ضمان الإسلام لحرية التدين كاملة غير منقوصة، في حق من يتمتع بحماية دولة إسلامية، وفي ظل التعدد والتنوع، هو سنة إلهية حاكمة لكل شيء. فلا يجبر أحد على تركه إلى غيره، ومن هنا تبرز أهمية التعايش الديني، وفق قول الله تعالى: (لا إكراه في الدين). وتأمل قول ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره، حين قال: laquo;أي لا تُكرِهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بَيِّن واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيهraquo;.