حازم صاغيّة


الرئيس السودانيّ عمر البشير متحمّس لانفصال الجنوب. إنّه يستعجله ويكاد صبره يخونه. لقد أبدى استعداده للاحتفال مع الجنوبيّين بانفصالهم، وطبعاً لم يُخفِ الترحيب بنتائج الاستفتاء الذي سيُجرى غداً، علماً أنّ النتائج معروفة سلفاً.

كيف انقلب البشير الذي أراد، ذات مرّة، تطبيق الشريعة الإسلاميّة بالقوّة على أرواحيّي الجنوب ومسيحيّيه، إلى نصير لحقّ الشعوب في تقرير مصيرها، وللاستفتاء الشعبيّ كواحد من تقنيّات الديموقراطيّة؟. كيف صار الرجل ديموقراطيّاً إلى هذا الحدّ، وكيف صار حسّاساً حيال ظلامات الجماعات ورغباتها، هو الذي خلّف في الجنوب وفي دارفور لوحات ناطقة بقلّة الحساسيّة؟.

الحال أنّ البشير سبق أن أجاب بنفسه عن هذه التساؤلات وما قد يشبهها. قال ما معناه إنّ انفصال الجنوبيّين يتيح المجال لتطبيق الشريعة في الشمال المسلم. إذاً الانفصال مكسب وإنجاز.

الاستجابة الدوليّة الإيجابيّة لموقف البشير من الاستفتاء، ولو صدرت عن أسباب غير أسبابه، تزيده ارتياحاً: إنّه لن يلقى أيّاً من المتاعب لدى تطبيقه الشريعة على الشماليّين... أو أنّ هذا ما يتخيّله على الأقلّ.

يُستنتج من ذلك كلّه أنّ الرئيس السودانيّ أحدث قفزة هائلة ينبغي أن تُسجّل له في الفكر السياسيّ العربيّ. فضدّاً على كلّ ما عهدناه وسمعناه من أنّ الوحدات خير مطلق والانفصالات شرّ مطلق، يقول لنا البشير العكس. وضدّاً على كلّ ما عهدناه وسمعناه من أنّ الكلام الغربيّ على الديموقراطيّة كثيراً ما يخبّئ رغبة دفينة في تفتيتنا، يركب البشير مركب الديموقراطيّة الخشن.

تترتّب على ذلك حقيقة لم يظهر من قبل مَن جاهر بها كما جاهر بها الرئيس السودانيّ: في سبيل تطبيق الشريعة، لا بأس بتوسّل حقّ تقرير المصير والديموقراطيّة. ذاك أنّ غير المسلمين كتلة فائضة ومزعجة لتطبيق البرنامج الاسلاميّ.

لكنْ إذا تُرك الجنوبيّون في سبيلهم، فهذا لا يعني أنّ الشماليّين، والدارفوريّين، وهم مسلمون، سيكون حظّهم أفضل.

فالبشير حوّل فكرة الوطن إلى laquo;الجماعةraquo; تحويلاً حَرفيّاً. الوطن والأمّة هما الجماعة فحسب. فكرة تركيب الجماعات والمجانَسة بينها في وطن غريبة عن عقله. إنّه، بالتالي، يطبّق سياسيّاً ومؤسّسيّاً ما يفعله بالعنف قاتلو أبناء الأقليّات. وما يفعله هو أفضل بالتأكيد.

وإذا كان غير البشير يرمي الديموقراطيّة وتقرير المصير بالهرطقة، فهو مستعدّ لاستخدام هذه الهرطقات في سبيل ترشيق الوطن وتخليصه من التعدّد.

لكنّ الوطن المساوي للجماعة، يتحوّل، مثله مثل تطبيق الشريعة، إلى تهديد. إنّه، على رأس نظام عسكريّ، يهدّد الشماليّين، وخصوصاً الدارفوريّين، بالوطن وبالشريعة، تماماً كمثل من يريد إخراج النزلاء الآخرين من البيت كي يختلي بزوجته، لا من أجل أن يحبّها، بل من أجل أن... يضربها. هل كان في وسع المستشرقين الملاعين أن يقولوا أكثر من ذلك في وصف هذا السلوك الذي يحتقر سائر المفاهيم السياسيّة المعاصرة، أكانت وطناً أم ديموقراطيّة أم حقّ تقرير مصير؟

إنّ عمر البشير خلاصة عجز laquo;الأمميّة الإسلاميّةraquo;، التي آمن بها في شبابه، عن اختراق الواقع. لقد جرّب الحرب في سبيل الصفاء، وها هو يجرّب تقرير المصير. المهمّ الصفاء.