يوسف الديني


يظل شبح laquo;القاعدةraquo; يحلّق في الأجواء لكنه على صلفه وهمجيته، وإمكاناته المادية والبشرية، يواجه حملات أمنية واسعة النطاق تعمل بدأب وتساجل التطرف كراً وفراً، ومع الأيام أثبتت الجهود الأمنية نجاحها على الأرض عبر ما عرف بالضربات الأمنية الاستباقية، التي اعتمدت بداية على إصدار قوائم بالمطلوبين الرئيسيين من أفراد التنظيم، لكن الاستقطاب والتجنيد خصوصاً عبر الإنترنت لا يزال نشطاً، وهو ما يشير بأصابع التقريع واللوم إلى الجهود الوقائية المتمثلة في الفعالية الفكرية المنوطة بالعلماء والدعاة والتربويين، فهم القادرون على طرد تلك الأشباح من قلوب الشباب.

في حلقة خامسة مثيرة من اعترافات جابر الفيفي الذي قضى شطراً كبيراً من شبابه متنقلاً بين تجارب واختبارات عنفية قادته للاعتقال أكثر من مرة ليعود من جديد متأملاً في تلك الوضعية وملقياً بشباك الأسئلة الحارقة التي تحاول الغوص عميقاً في بحر التطرف المظلم.

تواصل الحديث عن تجربة الانتقال إلى اليمن وتفاجئه بالبيعة الجديدة التي منحها لقائد تنظيم القاعدة في جزيرة العرب واليمن بعد أن كانت كما يقول في رقبته بيعة سابقة لأمير المؤمنين ملا عمر الذي بايعه شبان القاعدة تبعاً لبيعة ابن لادن له.

صدمة جابر الفيفي مع الواقع اليمني الجديد تمثلت في اختلاف الواقع والأرض والعلاقات الاجتماعية، لكن اندهاشه الأكبر كان مع الأفكار الجديدة لتنظيم القاعدة في اليمن واستراتيجيته التي لم يألفها من قبل، فهو كما يقول وإن كان ممن وقعوا في شرك تكفير الدولة والهجوم على الدولة لكنه لم يتوقع أن القاعدة خصصت استراتيجيتها في العمل المسلح داخل المملكة، لأنه كان يرى أن التجارب السابقة التي خاضها التنظيم أو حتى تلك المجموعات التكفيرية العنفية داخل المملكة باءت بالفشل وخسر مع التنظيم سمعته المتوهمة للأبد، إذ أدرك حتى المتعاطفون مع التجربة الجهادية في السابق أنها انحرفت إلى دوامة الإرهاب والعنف، هذه الازدواجية بين العمل في الداخل وبين الانضمام للمقاتلين في مناطق التوتر كانت محل جدل كبير بين القاعديين في العالم وبين تنظيمات القاعدة المحلية، ولم ينحسم الجدل لاحقاً إلا بعد أن ضاقت الحال بالتنظيم في الحدود المتاخمة في أفغانستان وارتبك في العراق ومن ثم تحوّل النشاط إلى اليمن.

حديث جابر الفيفي المثير ازداد سخونة حين تحدث عن المحاولة الآثمة التي فشل التنظيم فيها حين حاول استهداف رمز الأمن الأمير محمد بن نايف باعتباره رجل المعركة مع الإرهاب، إذ كان بعيداً عن مركز صنع قرار الحدث لكنه علم بالتفاصيل لاحقاً، وهو ما يجعلنا نفهم أن ثمة خلايا صغيرة داخل التنظيم قد تختلف استراتيجياتها وأهدافها عن الخلايا الأخرى، جابر الفيفي علم بالتفاصيل من القائد العسكري قاسم الريمي الذي أكد له عن تفاصيل الحادثة وكيفية صنع الحزام الناسف، إلا أن الفكرة الرئيسية التي أضافها حديث الفيفي عن محاولة الاغتيال هي التأريخ للانقسام الكبير الذي حدث بين السعوديين بين فئة تريد أن تسلم نفسها للدولة وتعتقد أن الآفاق مسدودة كما كان يصوّر لها وبين فئة أخرى تصلبت قناعاتها بأهداف التنظيم وحاولت بكل حيلة الوقوف حجر عثرة دون أن يسلم الشباب أنفسهم إلى الدولة.

التفاصيل الأكثر إثارة في المراجعات كلها كانت من نصيب واقعة المحاولة الآثمة لاغتيال رمز الأمن الذي كدرت استراتيجيته الأمنية والفكرية صفو القاعدة، كان بحسب جابر الفيفي الكثير من الغموض والتعتيم حول محاولة الاغتيال، إذ لم يكن يعلم بها سوى سعيد الشهري وقاسم الريمي اللذين تكتما على اختيار منفذ العملية عبدالله العسيري الذي وقع الاختيار عليه لأسباب تتصل بصغر سنه وبقائه في مختبر القاعدة في اليمن لمدة تزيد على السنتين استطاع التنظيم من خلالها شحنه نفسياً وذهنياً وعزله عن محيطه ليكون مؤهلاً لعملية الانتحار لتحقيق هدف نوعي كهذا، وبحسب الفيفي كان من المقدر أن يتم اختيار الوسيط اليمني الذي جاء للقاء الأمير للمرة الأولى بهدف عرض وجهة نظر السعوديين الذين يرغبون في تسليم أنفسهم.

المروّع في تفاصيل محاولة الاغتيال هو حرص التنظيم على بلوغ أهدافه مع إدراكه أن المحاولة قد تبوء بالفشل بنسبة كبيرة، إذ ذكر الفيفي أن ثمة فكرة كان يتم تداولها بين مخططي حادثة الاغتيال تدور حول استخدام مواد سامة توضع مع المتفجرات بحيث تقتل بسبب سميتها الشديدة عبر انتقالها من الجروح إلى دم المصاب حتى لو لم يكن الهدف المباشر، وهي التفاصيل التي تؤكد لنا مدى الخطورة والتطوّر اللذين وصل إليهما التنظيم في التخطيط لعملياته.

٢٠٠ غرام من المواد المتفجرة كانت كافية للتأثير على صخرة كبيرة، إلا أنهم قرروا مضاعفتها ثلاث مرات ليضعوا ٨٠٠ جرام من المواد شديدة الانفجار ليتحقق لهم الهدف في محاولتهم الآثمة التي باءت بالفشل، والتي كان فشلها بحسب جابر الفيفي مثار تساؤل واستغراب كبير من قيادي تنظيم القاعدة الذين ظنوا لأول وهلة أن الانفجار وقع بعيداً قبل الوصول إلى الأمير ولم يتوقعوا بحال أن المسافة كانت بهذا القرب.

المقدم طيب ويقولون، بأن فشل العملية مثّل لهم نجاحاً، نجاحاً بأنه قطع خط العودة عند الذين كانوا سيقومون بتسليم أنفسهم.

كانت رسالة التنظيم التي يريد إيصالها حتى في حالة فشل محاولة الاغتيال بحسب جابر الفيفي هي انتهاء مرحلة laquo;تسليمraquo; الأشخاص الذين يرغبون في العودة، فتسليم صالح العوفي كما يؤكد في السياق ذاته سبب لهم حرجاً كبيراً وأفقد التنظيم ثقته التي كان يحظى بها بين أتباعه والمتعاطفين معه في داخل السعودية.

انقطع أمل جابر الفيفي في العودة، حتى تلك الأفكار التي كانت تداعب مخيلته بأن يعود إلى وطنه إلى الطائف حيث دفن أحلامه الصغيرة، فمحاولة الاغتيال أوحت لجميع أفراد التنظيم أن العودة مستحيلة فمكث هناك سنة ونصف السنة تقريباً يتنقل بين بيوت أفراد التنظيم والمتعاطفين معهم من اليمنيين، انتابه خلال تلك الفترة الكثير من التململ من الوضع وعدم فاعليته تجاه ما يدور حوله، كان هدفه الرئيسي هو الانتقال إلى مناطق توتر وقتال حية حيث نوعية ما ألفه من عمل مسلح، لم يدر بخلده أن تلك المرحلة حيث خط النار والقتال على الجبهات قد انتهت تقريباً لتأتي مرحلة جديدة لم يألفها الجيل القديم نسبياً، مرحلة الاغتيالات والعمليات الانتحارية والأحزمة الناسفة.

كان الصدام سيد الموقف بين جابر الفيفي ومن يشاركه التململ نفسه والحنين لأجواء العمل المسلح في مناطق التوتر التي ألفوها وبين قادة تنظيم القاعدة في جزيرة اليمن الذين ضاقوا ذرعاً بهؤلاء الذين لم يتشربوا بعد الأفكار الجديدة التي فرضها واقع الجماعات المتطرفة وعلى رأسها القاعدة بعد أن ضاقت بهم المناطق المفتوحة للقتال والمعسكرات النشطة التي كانت تغذي التعطش النفسي لدى الأفراد.

لاحقاً استجاب قياديو القاعدة في اليمن لمطالب الجيل الذي يفكر بطرائق التنظيم القديمة، وقرروا فتح معسكر تدريبي في أبين بعد ضغوط شديدة مورست عليهم، وكان الهدف من هذا المعسكر هو لفت الأضواء الإعلامية وجلب التمويل واستقطاب المزيد من الشبان الذين يريدون هذا النوع من الفعالية العنفية من دون أن يكونوا مجرد أرقام انتظار في قوائم الانتحار الطويلة.

الاعتداءات الأميركية التي كانت تتم بطيارات حربية من دون طيار والتي كانت تقذف قنابلها كيفما اتفق جلبت معها الدمار نسبياً، ولكن نتائجها وفوائدها الإيجابية كانت أكبر، إذ استجلبوا تعاطف أهل المنطقة الذين مدوهم بالمال والدعم المعنوي واللوجستي.