السودان أولاً والبقية في الطريق

محمد عبد اللطيف آل الشيخ

الجزيرة

السودان على وشك أن يكون سودانين؛ فالمسألة أصبحت على ما يبدو شبه محسومة كما يقولون. والصحراء المغربية تسعى هي الأخرى إلى الانفصال عن الجسم المغربي. والعراق ينتظر على أَحَرّ من الجمر ليطالب الأكراد بتقرير المصير، أي الانفصال، ويتحول شماله إلى دولة كردية. أما أقباط مصر فقد وردت تقارير تقول إن الدعوة إلى دولة (قبطية) في جنوب مصر بدأت شرارتها، تطالب أن تتحول مصر إلى دولتين، واحدة مسلمة، والأخرى مسيحية.. ولو استمرت ذريعة (تقرير المصير) هذه فلن تبقى دولة واحدة في المنطقة عربية أو غير عربية في منأى عن التقسيم لتصبح أكثر من دولة؛ إما لأسباب دينية، أو إثنية. وفي المستقبل قد تكون الذريعة (طائفية) أيضاً؛ وعلى ذات المنوال ربما تصبح الخلافات القبلية هي الأخرى مبرراً لأن تطلب كل قبيلة في أي دولة أن تعطى (حق تقرير المصير)؛ فما يجري في دارفور غربي السودان يوحي بأن الخلاف القبلي يتفاقم، وأن التقسيم على أسس قبلية قد يمتد إلى ما تبقى من السودان ليتحول إلى ثلاث دول وربما أكثر وليس فقط دولتين.

القضية جد خطيرة؛ وتبعاتها قد تطال كثيراً من الدول ذات التمايز العرقي أو الديني أو حتى الطائفي. ومن الظلم أن نلقي المسؤولية على الخارج، ونكتفي بصب جام غضبنا على الأجنبي، دون أن نحمِّل الداخل جزءاً من مسؤولية ما انتهت إليه هذه القضايا من مآلات. وأنا هنا لا أنفي إطلاقاً أن للخارج والأطماع الاقتصادية والسياسية دوراً رئيساً في هذا التجزؤ، إنما يجب أن نعترفndash; أيضاً ndash; أن هناك أخطاء (قاتلة) للأنظمة الحاكمة مَهَّدتْ لهذا الانفصال، وجعلت الوضع الداخلي مهيأً للتشرذم، وخلقت لمشروعات الانفصاليين آذاناً صاغية؛ وأعطت للأجنبي الفرصة السانحة لتحقيق أهدافه؛ وهذا ما يجب أن تَعِيه وتحذر منه كل دول المنطقة.

تحصين (اللحمة الوطنية)، والعدالة في توزيع التنمية بين كل أجزاء الوطن يجب أن تكون من أولى الأولويات. فحسب ما جرى ويجري الآن في السودان ndash; مثلاً - فإن تهميش الأطراف، وتركيز الإنفاق والتنمية فقط على المركز، كانت من أهم الأسباب التي أشعلت في البداية شرارة الحرب الأهلية في السودان، وأدت في النهاية إلى إذعان الحكومة المركزية لتقرير المصير؛ وهم يعلمون سلفاً أن تقرير المصير يعني حتماً الانفصال. كما أن التباينات الدينية والمذهبية وكذلك العرقية بين أبناء الوطن الواحد إذا ما وَجدَت من يُشعلها، ويَنفخُ في نارها، ويلعب على حساسياتها، ولم تجد في المقابل تعاملاً حصيفاً (حذراً) وهي في بداياتها قبل أن تكبر وتتفاقم، ستصبح بلا شك قنبلة تنتظر من يفجرها، وستجد سواء في الداخل أو الخارج، عاجلاً أم آجلاً، من سيحاول إشعال فتيلها.

إن من يراقب الأحداث في المنطقة يجد أن هناك عناوين كبرى أصبحت بمثابة الذريعة للتدخل في شؤون الآخرين، أو تدخل القوى الكبرى في شؤون الدول الأضعف، مثل حماية الأقليات، أو حقوق الإنسان، أو حفظ السلم العالمي، أو حق الشعوب (المضطهدة) في تقرير مصيرها، ثم تنتهي هذه المبادئ بالدول إلى التفتت والتشرذم والانقسام، مع أنها تطرح في البداية لترسيخ القيم الإنسانية، وحفظ الأقلية من ظلم الأكثرية، بينما هي في الواقع وسيلة لتحقيق مصالح الدول الكبرى؛ فالشرعية الدولية حَمَّالة أوجه، يضعها القوي أينما أراد، ومتى أراد، لتصب في مصالحه وتحقق أهدافه في نهاية المطاف؛ وما يجري في السودان يؤكد ما أقول؛ هل سنعي ما يدور حولنا؟.. أتمنى ذلك.

السودان: موسم الهجرة إلى الجنوب

عبدالله بن بجاد العتيبي

عكاظ


عنوان المقال ليس من بنات أفكاري، ولكنه عنوان مستوحى من الرواية المشهورة laquo;موسم الهجرة إلى الشمالraquo; لطيب الذكر الطيب صالح، والتي قرأتها قبل سنوات، وما أوحى لي بهذا العنوان هو ما تناقلته وسائل الإعلام التي تحدثت عن هجرة كثير من السودانيين من الشمال للجنوب، استعدادا لاستفتاء تقرير المصير الذي بدأ قبل أيام وسينتهي الأسبوع المقبل، وحظي باهتمام عالميٍ مستحقٍ، واهتمام عربيٍ أقل.
يترافق مع استفتاء تقرير المصير هذا في جنوب السودان علم الجميع قبل بدئه أنه سيعلن للعالم أجمع احتمال قيام دولة جديدةٍ في عالم مستقر الدول، هذا العالم الذي لم يشهد قيام دولٍ جديدة منذ أمد من الدهر، فلقد استقرت الدول المعترف بها عالميا منذ عقود طويلة، والاستثناء الأكبر هو تحلل الاتحاد السوفيتي في النصف الأول من التسعينيات، حين خرج من رحمه ــ آنذاك ــ مجموعة كبيرة من الدول دفعة واحدة.
لقد عانى جنوب السودان كثيرا، ودفع ضريبة كبيرة، ليس كاتب هذه السطور مع الانفصال هناك، ولكن بإمكانه تفهمه، فحين تثور الحروب تلو الحروب على مدى يقارب الخمسين عاما، وحين يعاني البشر فإنهم بالتأكيد سيبحثون عن الخلاص، فحقائق التاريخ أقوى من أماني الفاعلين فيه، ودوراته وحراكه أشد وأمضى.
من المفيد التأكيد في هذا السياق أن نجاح جنوب السودان في الحصول على دولة جديدة في المنطقة، لا يعني بحالٍ أن غيرها سينجح، وأن المطالبات المشابهة ستحقق بالضرورة الشيء نفسه، سواء لدى أكراد العراق أم لدى غيرهم، وإنما ذكرت الأكراد بالاسم لتصريحهم بهذا، ولكن أهم ما يؤكده هذا الانفصال أمر واحد هو غياب بعض الدول العربية عن مراعاة مصالحها الاستراتيجية، وعن أعماقها اللوجستية، فالآخرون يتخطفونها ذات اليمين وذات الشمال، وهي أشبه بالمتفرج، ترصد الأحداث ولا تؤثر فيها، وهي في أكثر الأحوال مراقبة لا فاعلة، مشاهدة لا مؤثرة، ومشهد انفصال جنوب السودان خير شاهد، فكما أن الدول العربية فيما مضى لا دور لها فيه لا سلبا ولا إيجابا، فإنها اليوم بلا دور فيما يجري، والسؤال هو إلى متى ستظل هذه الدول العربية ومؤسساتها الكبرى تستمرئ الغياب الكبير!