جابر حبيب جابر


دعوة التيار الصدري مؤخرا إلى أن يكون لكل مواطن عراقي حصة من عائدات النفط هي دعوة مهمة وتمثل امتدادا لدعوات خافتة سبقتها، لكنها تتميز عن غيرها أولا في أن من تبناها هو زعيم التيار الصدري، وبالتالي فإنها المرة الأولى التي يطرح فيها موضوع إشراك المواطنين بملكية النفط على هذا المستوى، وثانيا أنها تمثل التفاتة من تيار طالما وصف بأن أغلب مؤيديه ينتمون إلى الشرائح الاجتماعية الفقيرة بشكل يوحي بإمكانية أن تمثل مصالح تلك الشرائح بشكل أفضل ودون أن تهدر طاقاتهم، وثالثا أنها تأتي في وقت باتت الأزمة الاقتصادية تلامس حياة المواطنين في عموم المنطقة والاحتجاجات المحفزة بدوافع اقتصادية تدشن مرحلة جديدة من علاقة المجتمع بالدولة كما ظهر لنا في أحداث تونس والجزائر. الكثير من الناس في عموم المنطقة باتوا يشعرون بالملل والتعب من المعارك التي لا تغني من جوع، لا سيما تلك التي ترفع بها شعارات كبرى وباسمها يتم تجاهل معاناة المواطنين ودفعهم بالتالي إلى الالتحاق بالتيارات الراديكالية التي أطلقت أشكالا غير مسبوقة من العنف.
سيقول البعض إن وجود الثروة النفطية في العراق هو ضمان دون حصول احتجاجات اقتصادية، لكن مثل هذا الطرح يغفل حقيقة أن النفط لم يمنع العراق من التحول إلى مجتمع فقير بدولة غنية، فالموارد الضخمة التي تراكمت بميزانية الدولة منذ السبعينات أغرت الحاكمين بالتخلي عن المجتمع تدريجيا وتوجيه تلك الموارد نحو بناء دولة قوية تسيطر على المجتمع وتوجهه، ثم أغرتهم للشروع بمشاريع تسلح ضخمة قادت بالضرورة إلى شعور مصطنع بالقوة واستسهال اللجوء إلى الحرب بما أنتج عملية دمار شبه شاملة للمجتمع العراقي الذي كان قد أصبح معتمدا بشكل مطلق على الدولة في توفير كل شيء. ثم بعد إسقاط النظام السابق وبدلا من جعل قضية العائد النفطي وكيفية التعامل معها قضية مركزية، تم تكرار نفس السلوك السابق وأغرت عوائد النفط الكبيرة الطبقة السياسية نحو توجيهها بشكل خاص إلى تعزيز سيطرتها وتضخيم القطاع العام عبر استخدام التعيينات كوسيلة لمراكمة النفوذ، وامتد ذلك إلى خلق العديد من المؤسسات الجديدة وتضخيم مؤسسات قائمة بحجة أن ميزانية الدولة كبيرة بما يكفي لإرضاء الجميع، لكن هؤلاء laquo;الجميعraquo; هم القوى السياسية والأحزاب وليسوا laquo;جميع المواطنينraquo;.
إن النفط ربما يمثل ضمانة جيدة من أجل بقاء الدولة وتوفير الاحتياجات الأساسية، لكنه إذا أسيء استخدامه سيصبح مصدرا للمعاناة كما تبرهن الحالة العراقية. فالموارد الهائلة التي تنتزعها الدولة عبر بيع النفط لا عبر الضرائب تؤدي بالضرورة إلى استقلالية الدولة عن الحركة الاقتصادية الداخلية وعن المصالح الاجتماعية، وإلى تحولها إلى كيان قائم بذاته له أهدافه ومصالحه وموارده الخاصة. وحالة انعزال الدولة عن المجتمع هي مقدمة لنموذج جديد من السلطوية حتى لو لم تكن مقصودة، فالنخبة السياسية وهي تستسهل إيجاد آليات ومؤسسات لتوزيع عوائد النفط فيما بينها ستتحول تدريجيا من طبقة سياسية مهيمنة إلى طبقة اقتصادية مهيمنة، وعندها يصبح دوام همينتها هدفها الأساسي. وكما هو واضح في حالات عديدة، معظم الأحزاب العراقية لا تمتلك التربية الديمقراطية الكافية والبناء المعنوي الضروري لمقاومة مثل هذا الإغراء.
بالطبع الحجة الوجيهة المقابلة هي أن الدولة توزع عائدات النفط بطريقة ضمنية عبر الرواتب والخدمات والتعيينات، فمعظم العوائل العراقية لديها موظفين في القطاع العام، وجميعها تستفيد من نظام البطاقة التموينية، لكن ذلك رغم صحته ليس كافيا في ضمان توزيع سليم وعادل، ففي ظل توزيع الوزارات والمؤسسات العامة وفق نظام المحاصصة يتم توزيع التعيينات بين مرشحي الأحزاب السياسية التي ستسعى إلى توظيف هذا الوسيلة لتعزيز قوتها وإدخال مريديها، وهناك شرائح اجتماعية واسعة لا تمتلك قنوات اتصال لتسهيل حصول أبنائها على وظائف عامة. فضلا عن أن تضخم حجم المتخرجين حديثا يجعل حصولهم على فرصة التعيين عسيرة للغاية في مجتمع يؤلف الشباب أكبر فئاته العمرية، وهؤلاء الشباب لا غيرهم هم الذين يمكن أن يبدأوا الاحتجاج لحظة الغضب وفقدان الأمل. كما أن توزيع النفط عبر تضخيم البيروقراطية الحكومية وكما أثبتت السنوات الماضية لا يحسن من كفاءة تلك البيروقراطية بقدر ما يجعلها تعاني من البطالة المقنعة والترهل ويعزز فرص الفساد ويجعل من الإهمال سلوكا سائدا فيها.
لا يمكن تجاهل صعوبة تطبيق فكرة توزيع جزء من العائد النفطي على كل فرد في بلد يستعصي فيه إجراء إحصاء سكاني، ولكن الدعوة الأخيرة هي فرصة حقيقية للبدء بمواجهة هذه المشكلة قبل أن تصبح معضلة عصية للحل، والبحث في السبل التي يمكن للنفط من خلالها أن لا يغدو سببا لتكرار مآسي الماضي.