Shibley Telhami - National Interest

من أهم العناصر التي تعزز شعبية نصرالله، عدا نجاحه الواضح في التعامل مع إسرائيل هو أنه صوّر نفسه كقائد قومي عربي ورجل وطني لبناني، حتى لو كان يدافع عن جماعته الشيعية، لكن هذه الصورة ستتعرض للاهتزاز طبعاً في حال برزت أدلة تُورط حزبه في اغتيال الحريري، وهذا ما دفعه منذ أسابيع إلى اتخاذ الخطوات اللازمة تجنباً لتحقق هذا الاحتمال.

يواجه لبنان مجدداً أزمة داخلية نتيجة سقوط حكومة الرئيس سعد الحريري (الذي سار على خطى والده رفيق الحريري بعد اغتياله) بعد انسحاب وزراء 'حزب الله' وحلفائهم من الحكومة. سيستمر الحريري في رئاسة حكومة تصريف أعمال حتى تشكيل حكومة جديدة، غير أن قدرته على فرض سلطته، وبالتالي ممارسة الحكم، ستتراجع كثيراً في هذه الفترة... الأهم من ذلك بعد هو أنه سيواجه خيارات صعبة وفورية، يُذكَر أن 'حزب الله' كان العنصر المحرك لهذه الأزمة.

على الرغم من المخاطر المطروحة بالنسبة إلى جميع الأطراف، بقي 'حزب الله' المسيطر الفعلي على الوضع، مع أن التحقيق في جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق يحصل تحت إشراف محكمة دولية تابعة للأمم المتحدة. على المستوى الديموغرافي، تميل الكفة داخل لبنان إلى القاعدة الشيعية، كما أن تقاسم السلطة داخل هذا البلد يصب في مصلحة الشيعة أيضاً، فعلى الصعيد السياسي، نجح 'حزب الله' في فرض نفسه في الحكومتين، السابقة والراهنة، مع أنهما كانتا بقيادة تحالف '14 آذار'، وذلك من خلال استغلال تفوقه العسكري في مواجهات عام 2008. لايزال أمين عام الحزب حسن نصرالله يُعتبر من أكثر الشخصيات شعبيةً في العالم العربي، بينما يزداد موقع خصومه ضعفاً يوماً بعد يوم بسبب تسريبات موقع 'ويكيليكس' المتواصلة. ومن المنتظر أن تصب الوثائق الجديدة المتوقَّع نشرها حول حرب عام 2006 بين إسرائيل و'حزب الله' في مصلحة الأخير على مستوى الصراع القائم لتوجيه الرأي العام العربي أيضاً.

ومع ذلك، تطرح محكمة الحريري خطراً كبيراً على 'حزب الله'، فهي مدعومة من الأمم المتحدة، والأهم من ذلك هو أنها تمنح كل من يريد إضعاف الحزب في الغرب فرصة شرعية لفعل ذلك. وتنتشر التوقعات القائلة إن المحكمة ستسمي بعض أعضاء 'حزب الله' باعتبارهم على صلة باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق. كذلك، يبرز أمر آخر من شأنه تهديد شرعية نصرالله، ففي حقبةٍ يفتقر فيها القادة العرب إلى حدٍّ أدنى من المصداقية بنظر شعوبهم، نجح أمين عام 'حزب الله' في نشر نفوذه خارج الحدود اللبنانية بناءً على مبدأ الصدق الذي حرص على اعتماده في جميع تصريحاته. فجاء هذا العامل ليُضاف إلى الجاذبية التي يتمتع بها أصلاً، ففي خطاباته إلى الحشود، نجح ببراعة فائقة في الوصول إلى قلوب العرب كما لم ينجح أحد قبله منذ غياب الرئيس المصري جمال عبدالناصر عن الساحة في عام 1970، لكن يبدو أن نصرالله يعي جيداً ما كانت نقطة ضعف عبدالناصر الأساسية، أي افتقاره إلى المصداقية، لا بسبب هزيمته المفاجئة في حرب عام 1967 فحسب، بل بسبب الفجوة الهائلة بين ما كان يقوله (وما روّجت له وسائل الإعلام التابعة له) عن الصراع والحقيقة المجردة لواقع الأمور. في حرب عام 2006، حرص 'حزب الله' على عدم المبالغة في نقل عدد القتلى الإسرائيليين وعدم إطلاق تهديدات لا يستطيع تنفيذها. هذا هو رأي عدد كبير من المعجبين بنصرالله في أنحاء العالم العربي. غير أن احتمال أن يكون بعض عناصر حزبه مسؤولين عن قتل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق يضع جميع هذه المعطيات في مهب الريح.

لكن من الملفت أنه نجح حتى هذه اللحظة في تجنب الدخول في دوامة التوترات السنّية الشيعية التي بلغت ذروتها في الشرق الأوسط، وحتى عندما احتدم الصراع الطائفي، تحديداً في العراق ولبنان، نجح نصرالله في الحفاظ على شعبيته في الدول العربية ذات الأغلبية السنّية مثل الأردن ومصر.

وحتى حين خاض صراعاً مع الحكومة المدعومة سُنياً برئاسة فؤاد السنيورة، غداة حرب عام 2006، انحاز عدد إضافي من العرب في هذه البلدان إلى نصرالله بدل الحكومة اللبنانية. من أهم العناصر التي تعزز شعبية نصرالله، عدا نجاحه الواضح في التعامل مع إسرائيل ndash;لا يزال هذا العامل مهماً حتى الآن- هو أنه صوّر نفسه كقائد قومي عربي ورجل وطني لبناني، حتى لو كان يدافع عن جماعته الشيعية، لكن هذه الصورة ستتعرض للاهتزاز طبعاً في حال برزت أدلة تُورط حزبه في اغتيال الحريري، وهذا ما دفعه منذ أسابيع إلى اتخاذ الخطوات اللازمة تجنباً لتحقق هذا الاحتمال.

كانت أول خطوة مهمة أقدم عليها نصرالله في هذا المجال تقضي بإثارة شكوك اللبنانيين والعرب بشأن مصداقية محكمة الحريري ونتائجها، وفي خطاب له بثته الجزيرة كاملاً، استفاض في حديثه عن تورط إسرائيل في اغتيال رفيق الحريري. فقدم لقطات فيديو بعد أن اخترق على ما يبدو الاتصالات العسكرية الإسرائيلية، وقد جذبت هذه المعطيات انتباه شريحة واسعة من العرب، فبدأ بالحديث عن أمر يصدقه معظم العرب، أي أن إسرائيل هي وراء معظم الأحداث التي تؤجّج الصراع والفتنة الطائفية في البلدان العربية والإسلامية. يميل العرب فعلياً إلى تصديق هذا التحليل، لكن كان التحدي الأكبر الذي واجهه يكمن في تقديم أدلة على تورط إسرائيل في اغتيال الحريري تحديداً. صحيح أنه عرض معطيات قليلة لا يمكن أن تصمد في أي محكمة، إلا أنه نجح في نشر ما يكفي من الشكوك في هذا الشأن، وبما أن العرب يميلون بالفطرة إلى تصديق ضلوع إسرائيل في كل مشكلة عربية، حصل نصرالله بذلك على الحماية وعلى قاعدة لتبرير نفسه حين تُصدر المحكمة نتائج التحقيق.

ما يوازي الأمر أهميةً هو أن نصرالله أدرك أنه إذا تحدث عن نظرية المؤامرة الإسرائيلية، فسيتمكن من تجريد نتائج المحكمة من كل شرعية في حال وُجهت أصابع الاتهام إلى 'حزب الله' في مقتل الحريري، الأمر الذي يهدد باندلاع حرب أهلية، وأدت هذه الخطوة إلى إفساح المجال أمام لاعبين سياسيين آخرين للانحياز إلى نصرالله ودعمه. ويتعلق أهم نجاح حققه في تلك المهمة بكسب دعم أحد أبرز أعضاء تحالف '14 آذار'، الزعيم الدرزي وليد جنبلاط الذي كان شفّافاً في عرض رأيه استناداً إلى حسابات سياسية واضحة. فرأى جنبلاط ضرورة الاختيار بين تجنب الحرب الأهلية في لبنان من جهة وتحقيق 'العدالة' من جهة أخرى، لذا فضل الخيار الأول وحث رئيس الحكومة سعد الحريري على القيام بالمثل، فهو رأى في نظرية نصرالله غطاءً للقيام بما يجب فعله من وجهة نظره. لكن لا شك في أن جنبلاط يطلب الكثير من الحريري، فالمحكمة ليست مجرد مطلب يحظى بدعم حلفاء الحريري الدوليين، بل إنها تتعلق في جوهرها بمقتل والده. قام جنبلاط في السابق باتهام السوريين بقتل والده أيضاً- حتى أنه طالب الأميركيين، في مرحلة معينة، بقصف دمشق- ولكن سرعان ما اعتذر من سورية بنفسه، ولا عجب إذن في حصول بعض التنازلات الأخلاقية في هذا المجال.

قام سعد الحريري من جهته بتنازلات مهمة مع سورية و'حزب الله'، وذلك على الرغم من الضغوط المتعددة التي يواجهها داخل لبنان وخارجه، وتحديداً من فرنسا والولايات المتحدة والأمم المتحدة التي ستتابع حتماً دعمها للمحكمة ورفض جهود 'حزب الله' الهادفة إلى تجريدها من شرعيتها، غير أن انهيار الحكومة تجعل الخيارين اللذين طرحهما جنبلاط أكثر واقعية وحتمية: إما المجازفة باندلاع حرب أهلية تكون نتائجها غير معروفة في أفضل الأحوال- أو على الأقل المجازفة بانتشار فوضى سياسية في لبنان- وإما إيجاد صيغة معينة للتعامل مع مطالب 'حزب الله'.

لا تصبّ الحرب الأهلية في مصلحة أي طرف في لبنان، بما في ذلك 'حزب الله'، بغض النظر عن التهديد الذي يطرحه. يرى الحزب أن الوقت في مصلحته في لبنان وسيؤدي أي صراع شامل في البلاد إلى إعاقة خططه. قد يؤدي الأمر أيضاً إلى جرّ أطراف أخرى (إسرائيل، سورية، إيران، المملكة العربية السعودية، الولايات المتحدة، فرنسا) إلى الصراع، وبالتالي سيصعب على الحزب السيطرة على الوضع. في جميع الأحوال، تبقى إسرائيل الغطاء الظاهري لكل ما يحصل.

يبدو أن كلاًّ من إسرائيل و'حزب الله' لا يريد اندلاع حرب شاملة في هذه المرحلة، إذ يدرك الطرفان الكلفة الباهظة التي تكبداها في اشتباك عام 2006. لكن يتوقع بعض الإسرائيليين نشوب حرب جديدة مع 'حزب الله'، إذ يرى الإسرائيليون في النمو السريع لقوة الحزب تهديداً استراتيجياً عليهم وعاملاً إيجابياً بالنسبة إلى إيران. في حال وقوع حرب مماثلة، وبغض النظر عن توقيتها، فلن يقتصر الأمر على مجرد اقتناص فرصة سياسية، إذ يريد كل طرف التخطيط بحذر لتوقيت الحرب وطبيعتها، لكن تبرز دوماً ظروف غير متوقعة قد تؤدي إلى تصعيد الوضع. وفي حال انجرّ لبنان إلى صراع داخلي خطير، فستتدخّل أطراف خارجية حتماً، من بينها إسرائيل، لكن في الفترة الراهنة، قد يؤدي انسحاب نصرالله من الحكومة إلى تعقيد استراتيجية الحرب الإسرائيلية. من الواضح أن الجيش الإسرائيلي بات يعتبر أن الحرب المقبلة لن تكون ضد 'حزب الله' حصراً، بل ضد الدولة اللبنانية أيضاً، ما يعني حصول تغير جوهري في استراتيجية تحديد الأهداف. كانت حجة إسرائيل لتقوى أكثر بواقع أن 'حزب الله' هو جزء من الحكومة اللبنانية. لكن إذا كانت الحكومة تحظى بدعم الولايات المتحدة وأوروبا وتواجه خلافاً مع 'حزب الله'، فستضعف حجة إسرائيل كثيراً. على الأقل، سيصعب على إسرائيل استهداف الدولة اللبنانية كوسيلة لردع 'حزب الله'.

ترتفع مخاطر اندلاع صراع في هذه المرحلة أكثر من أي وقت مضى، ولو عن غير قصد، في بيئة تعمها الشكوك والفوضى السياسية كتلك التي يواجهها لبنان اليوم. لكن يبقى الرهان على أن تكون جميع مواقف 'حزب الله' الراهنة مجرد طريقة للتعاطي مع نتائج تحقيق محكمة الحريري. وقد نجح نصرالله في تحسين موقعه وموقع حزبه للتعامل مع المستجدات المقبلة.