عبدالعزيز بن عثمان التويجري
التصريحات التي صدرت أخيراً عن بابا الفاتيكان بنديكتوس السادس عشر، في شأن ما زعم أنه laquo;حماية الأقليات المسيحية في العالم الإسلاميraquo;، تعد بجميع المقاييس، تدخلاً في الشؤون الداخلية للدول التي قصدها، وهي في المقام الأول مصر والعراق وباكستان ونيجيريا. فالبابا، إضافة إلى رئاسته الكنيسة الكاثوليكية وحمله لقب الحبر الأعظم، فهو رئيس دولة تتمتع بصفة مراقب في دورات الجمعية العامة للأمم المتحدة وأعمالها، وتوفد سفراء لها معتمدين إلى دول العالم. وبهذا الاعتبار يسري على حاضرة الفاتيكان القانون الدولي والأعراف الديبلوماسية. وهذه هي المرة الثانية التي تصدر عن بابا الفاتيكان تصريحات من هذا القبيل، حيث كانت المرة الأولى، في أعقاب الحادث الإرهابي الإجرامي الذي وقع على أبواب كنيسة القديسّيْن في الإسكندرية ليلة رأس السنة الميلادية.
وقد ردّ عليه شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، في بيان شافٍ، أوضح فيه حقائق الأمور، مستنكراً أن يتدخل بابا الفاتيكان في الأمور الداخلية المصرية، والمرة الثانية كانت حين استقبل البابا السفراء الأجانب المعتمدين لدى حاضرة الفاتيكان، ووجّه لهم كلاماً سياسياً فيه تدخل سافر في شؤون دول مستقلة ذات سيادة. وقد بادرت الحكومة المصرية إلى استدعاء سفيرتها لدى الفاتيكان، في إشارة واضحة إلى شجبها واعتراضها على التصريحات البابوية التي مست بسيادة الدولة المصرية.
ويتزامن الإدلاء بهذه التصريحات البابوية المثيرة للاستغراب، والتي تنأى عن أن تكون تصريحات دينية محضة، مع تحركات ذات دلالات سياسية مكشوفة اطردت وتيرتها خلال الفترة الأخيرة، تدل على أن حاضرة الفاتيكان تمارس سياسة مخطط لها بدقة، وذات أهداف ليست بريئة، كما قد يظن للوهلة الأولى. وليس يهمنا من أمر الفاتيكان أن تتخذ من السياسات ما تخدم به مصالحها، ولكن يهمنا أن نكشف في هذا السياق، الأبعاد السياسية الفاتيكانية المنحازة إلى إسرائيل والصهيونية، وأن نؤكد أن التدخل في الشؤون الداخلية لدول العالم الإسلامي، من حاضرة الفاتيكان أو من غيرها، مسألة مرفوضة على الإطلاق.
ففي تشرين الأول (أكتوبر) الماضي عقد في حاضرة الفاتيكان، اجتماع الأساقفة الكاثوليك الشرقيين المعروف بـ laquo;السينودوسraquo;. وقد نوقشت في هذا الاجتماع laquo;ورقة العملraquo; التي تشتمل على 92 بنداً، وقد ذيل كل محور من محاورها بعدد من الأسئلة كي يجيب عنها المختصون الذين وزعت عليهم تلك الورقة. وعلى رغم أن laquo;ورقة العملraquo; ادّعت ابتعاد السينودوس عن السياسة كما جاء في البند 43 laquo;وقبل كل شيء، ينبغي أن نذكر بأن هدف السينودوس هو رعوي محض، ولا يتناول القضايا الاجتماعية - السياسية لبلاد إلا بطريقة غير مباشرةraquo;، فإنه تناول القضايا التالية:
- الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي.
- علمنة المجتمعات الإسلامية.
- التصدي والمواجهة لظواهر laquo;الإسلام السياسيraquo; و laquo;الأسلمةraquo;.
وتلك قضايا سياسية، بل هي في الصميم من سياسة المنطقة، لا شك في أنها مما ينشغل به رجال السياسة والحكم والمهتمون بشؤون المنطقة.
بل طلبت الوثيقة المشار إليها، التدخلَ الخارجيَّ الغربيَّ-السياسيّ والديني- في شؤون أوطان الشرق. فهي إذن laquo;ورقة عملraquo; سياسية، تمثل جدول أعمال سياسياً، يعقده بطاركة وأساقفة، هم زعماء سياسيون في كنائس الشرق.
وفي الوقت الذي تتدخل الفاتيكان في صميم الشؤون الداخلية للدول، (والمقصود هنا حصراً دول من العالم الإسلامي)، نجدها تعزز سياسة التقارب مع دولة العدوان التي تمارس أبشع الجرائم ضد الإنسانية التي ذهب ضحيتها، بالدرجة الأولى، المواطنون الفلسطينيون المسلمون. فلا كلمة واحدة وردت في هذه الوثيقة عن القدس التي تجهز الصهيونية اليوم على عروبتها، ولا أثراً لحقوق الشعب الفلسطيني الذي اغتصبت أرضه ودنست مقدساته، ولا كلمة واحدة عن اللاجئين الفلسطينيين الذين يكونون أكبر كتلة من اللاجئين في العالم، والذين أكدت الشرعية الدولية في القرار رقم 194، حقهم في العودة إلى وطنهم، ولا كلمة واحدة عن ضرورة إنهاء الاحتلال الصهيوني للأراضي التي حددها القرار الدولي رقم 181 لعام 1947 للدولة العربية الفلسطينية، بل ولا حتى الجلاء عن الأراضي التي احتلتها إسرائيل في عدوان حزيران (يونيو) 1967، لا كلمة في هذه الوثيقة، عن المقدسات الإسلامية المهددة بالهدم في القدس.
إن الربط بين تصريحات البابا بنديكتوس السادس عشر الأخيرة، في شأن ما أسماه (حماية الأقليات المسيحية في العالم الإسلامي)، وبين ما تمت مناقشته في مجمع سينودوس، الذي عقد في حاضرة الفاتيكان في شهر أكتوبر/تشرين الماضي، يفضي بنا إلى حقيقة مخيفة تستدعي منا أن نتنبّه لها. فهل يعيد التاريخ نفسه، فتعود الفاتيكان والدول الغربية المسيحية، إلى فرض الوصاية على المواطنين المسيحيين في دول العالم الإسلامي تحت دعوى حماية الأقليات المسيحية؟
ذلك هو الخطر المحدق بالعالم الإسلامي الذي يستوجب أقصى حد من اليقظة والحذر والوعي بحقائق السياسة الاستعمارية الجديدة التي تلتحف بالعباءة الدينية، كما في زمن الحروب الصليبية، والعمل على مواجهتها بالتضامن، ووحدة المواقف، وقوة الدفاع عن المصالح العليا.
* المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة - إيسيسكو
التعليقات