شفيق الغبرا

لعل إسقاط أحد أكثر الأنظمة بوليسية في العالم العربي يؤسس لوضع جديد في العلاقة بين شعوب المنطقة وأنظمتها السياسية. وقد كانت مشكلة البطالة هي المدخل للتغيير في تونس، مصحوبة بالقمع السياسي والفساد والتهميش، ولو دققنا في عديد من دول المنطقة العربية لوجدنا تقاطعاً في الظروف. وهذا التقاطع سيزداد مع الوقت، ممهداً لتعبيرات بعضها عنيف وبعضها سلمي.

إن المدخل للتغيير في الواقع العربي لن يكون سوى حادثة بسيطة في يوم مشمس طبيعي وفي وقت لا يتوقعه أحد. فالحدث التونسي كسر شيئاً في جدار الرهبة لدى المواطن العربي، وهو في طريقه لصناعة حالة نفسية جديدة ستعم العالم العربي حراكاً واحتجاجاً، صوتاً وممارسة.

أما الدرس الأهم ممّا وقع فيمكن تلخيصه في التالي: لا يكاد يوجد حكم في التاريخ الإنساني يحتكر السلطة لفترة طويلة ويخترقه الفساد لا يصبح فيه التسلط على الآخرين وهضم حقوقهم طريقة في الإدارة. ولهذا السبب، ترتقي مقاومة الناس للاحتكار السياسي وتزداد مع الوقت، وصولاً إلى لحظات تاريخية. لقد دفعت الأوضاع بالشعوب العربية إلى الحائط، وقد لا يخرجها من هذا المأزق سوى حركات احتجاج تؤسس للمشاركة الحقيقية وتداول السلطة.

لقد أكد لنا الحدث التونسي أن خيارات البلدان العربية في التغيير ليست بين الديكتاتورية من جهة وبين التطرف الإسلامي من جهة أخرى. وما تقوله لنا تونس هو أنه يوجد خيار ثالث ديمقراطي يؤمن بالتعددية وتداول السلطة والدولة المدنية ويتصدى للفساد ويسعى للتنمية.

والراهن أن ما وقع في تونس أطلق رسائل كثيرة. فتونس كانت من أكثر الدول منعاً لـlaquo;اليوتيوبraquo; ومنعاً للحريات الإعلامية وللمدونات، ولكن عندما وقعت الانتفاضة نجح المدوّنون والشبان في استخدام كل وسائل التكنولوجيا لكسر الرقابة والانتصار عليها. وهذا يؤكد أن عصر الرقابة في التعامل مع الرأي الآخر هُزم في الشارع، وأن قوانين الرقابة العربية التي تحد من حرية القول والكلمة والمواقع الإلكترونية والكتب والصحف والإعلام ما هي إلا خداع للنفس آن الأوان للتراجع عنه.

ويؤكد الحدث التونسي أيضاً أن سلطة الأجهزة القمعية، التي هي أكثر السلطات قوة في معظم البلاد العربية، لا تمنع انهيار نظام في لحظة محددة. وعندما يتحكم الخوف بقرارات النخب الحاكمة تكون النتائج وخيمة ومتوترة كما شاهدنا في تونس.

ويؤكد الحدث التونسي كذلك أن واقعنا السياسي هش، وأن كثيراً من الحراك بإمكانه آن يقع في الظل وتحت الأرض، وأن عود ثقاب يكفي لإشعال حريق لا يتوقف. وعندما يمتلك نظام السلطة الشاملة قلّما يستوعب بأن أكثر الفئات ضعفاً وتهميشاً وعزلة قد يكتسب جرأة وقوة غريبة في لحظة تحول وتحرر.

وتقول لنا التجربة التونسية إن بن علي لو نفذ وُعودَه بعد انقلابه على حكم بورقيبة قبل 23 عاماً، بفتح باب المشاركة وقيادة إصلاح صادق وشفاف وبناء تفاهم مع المعارضة، لانتهى الأمر بحماية النظام العام ونجاح فكرة التداول على السلطة في تونس وتعميق الحياة الحزبية والسياسية وإنضاجها. ولو فعل هذا لكان اليوم رئيساً لحزب في تونس يسعى لنيل الأصوات والتنافس مع بقية الأحزاب على قيادة البلاد، كما هو الحال في كافة الدول الديمقراطية في العالم.

لقد دق الحدث التونسي ناقوس الخطر أمام القادة العرب، منذراً بضرورة تنفيذ الإصلاح السياسي الذي وعدوا به شعوبهم قبل عقد من الزمن. وهذا الإصلاح ينبغي ألا يكون بسبب المطالب الأميركية، كما كان الوضع عام 2003، بل بسبب مطالب الشعوب والمنطق والكرامة الإنسانية. وهناك عدة دول مرشحة لـlaquo;العدوى التونسيةraquo; فيما لو لم تبدأ إصلاحات جادة للحياة السياسية ولم تجرِ انتخابات نزيهة وترفع سطوة القمع وتفتح الباب أمام الحريات الإعلامية والسياسية والاقتصادية. وفي المجمل، لا ينبغي أن يمر الحدث التونسي أمام القادة والمسؤولين العرب وكأن تونس استثناء.

ينشر بترتيب مع خدمة quot;منبر الحريةquot;