غسان شربل

ما شهدته مصر في الايام الماضية وبلغ ذروته امس ليس حدثا مقتصرا على مصر وحدها. سبقته احداث تحولت ثورة في تونس. واكبته تظاهرات في اليمن والاردن. واضح اننا امام ارتجاجات لا تقتصر على مكان بعينه. ربما كانت دول المنطقة تدفع فاتورة تأخر حكوماتها في اتخاذ قرارات صعبة في السنوات الماضية. قرارات جريئة في ميدان الاصلاح السياسي والاقتصادي. قرارات بالاصغاء الى الناس بدلا من المسارعة الى اتهامهم. قرارات بفتح النافذة قليلا حتى ولو حمل ذلك خطر تسرب الرياح. لم تتنبه الحكومات الى ان تسرب الرياح يبقى افضل من توفير الظروف لاندلاع عواصف واسعة. لم تتعلم دول المنطقة مما شهدته مناطق اخرى في العالم. لم تدرك ان معالجة الهزات الصغيرة افضل من التحصن وانتظار الزلزال.

اخطر ما يمكن ان يحصل هو استحكام القطيعة بين الحكومة والناس او قسم كبير منهم. ان يشعر المواطن العادي بانسداد الافق. وان الحوار غائب. ولا جدوى منه ان حصل. وان صوته لا يصل. ورسائله تبقى بلا رد.

اخطر ما يمكن ان يحدث هو غياب الامل. وغياب النوافذ. ان يشعر الشاب ان الاجازة الجامعية مجرد بطاقة عضوية في نادي العاطلين عن العمل. وان المسكن اللائق حلم بعيد المنال. وان الاشياء جامدة لا تتغير. وان تبديل الحكومات لا يعنيه. وان الانتخابات التشريعية تفاقم القطيعة بدل انهائها. وان المشاركة متعذرة. وانه مهمش. وان الحديث عن مكافحة الفساد هو مجرد اسلوب لامتصاص النقمة. وان ذهاب فاسد يعطي الفرصة لحلول فاسد جديد.

اخطر ما يمكن ان يحدث هو ان يقرر المواطن عدم التصديق. اي ان لا يصدق التلفزيون الرسمي والصحف الرسمية. وان يبتسم اذا تحدث وزير الاعلام. وان يقطب وجهه اذا تحدث وزير الداخلية. وان يصل به التشكيك الى عدم تصديق ارقام خطة التنمية. وعدد السياح. وحجم الاستثمارات الخارجية. وخطط محو الامية. ونتائج الانتخابات البلدية والتشريعية. ونتائج الشهادة الثانوية وحتى فحوص الدم.

انها ازمة ثقة عميقة. شعور عميق بالاحباط. مشاعر غضب تتحين فرصة التعبير عن نفسها. وفي غياب المؤسسات التي يمكن ان تشرك المواطن في التعبير عن رأيه. وتشركه في تغيير واقعه. يصبح الشارع هو الخيار. وهو في بلداننا خيار محفوف بالامل مرة ومحفوف بالاخطار مرة اخرى. وبعض الممارسات التي رافقت الاحتجاجات في مصر أمس تثير القلق من احتمال الانتقال من حلم التغيير الى خطر الوقوع في الفوضى.

لم نكتشف هذه المشاعر البارحة او في الايام الاخيرة. يستطيع الصحافي العربي ان يشم رائحة التوتر في عواصم عربية كثيرة على رغم اختلاف الظروف. وهذه المشاعر ليست جديدة. لكن العالم القديم لم يكن يسمح بانتشارها. كان الاعلام حكوميا بالكامل. كان باستطاعة الانظمة اغلاق بلدانها. ومعالجة الاحتجاجات باخفائها وانزال العقاب الصارم بمرتكبيها. الجديد هو ان العالم تغير. اغتالت ثورة الاتصالات قدرة الحكومات على الحجب والحظر والقمع. اشعرت ملايين الشبان بقدرتهم على رفع صوتهم وتغيير الواقع الذين يشكون منه.

يمكن القول ان معظم الحكومات العربية تأخرت في قراءة التحولات التي عصفت بالعالم قبل نحو عقدين. اعتبرت انهيار جدار برلين حدثا بعيدا. وانتحار الاتحاد السوفياتي حدثا بعيدا. لم تلتفت الى هزيمة نموذج وقاموس. اساءت ايضا تقدير آثار دخول الفضائيات الى المنازل العربية. وانضمام الملايين الى جيش مستخدي الانترنيت ووسائل الاتصالات الحديثة. اساءت ايضا قراءة يقظة مشاعر الشباب وشعورهم بحقهم في المطالبة بالخبز والحرية والكرامة.

لا خيار غير الاصغاء الى الناس. يمكن للاجراءات الامنية ان تمنع الانزلاق نحو الفوضى. لكنها لا تكفي لاستعادة الاستقرار. تحتاج حماية الاستقرار الى قرارات جريئة تنهي القطيعة مع الجمهور. قرارات تعيد فتح نوافذ الحوار والامل. ان خروج مصر من وضعها الحالي ضرورة مصرية وعربية.