غازي العريضي

استنفرت أميركا كل إمكانياتها لمنع الفلسطينيين من النجاح في الحصول على العضوية الكاملة في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، بعد موافقة المجلس التنفيذي للمنظمة على طرح الأمر على الدول الأعضاء. فقد دعت واشنطن كل الدول الأعضاء في المنظمة إلى رفض توصية المجلس التنفيذي. وقالت المتحدثة باسم الخارجية الأميركية فيكتوريا نولاند quot;إن عملية جارية في مجلس الأمن لبحث طلب انضمام فلسطين إلى الأمم المتحدة. وبالتالي فمن غير المناسب اتخاذ قرارات بشأن وكالات مكونة للأمم المتحدة قبل أن يتمكن مجلس الأمن من قول كلمتهquot;! وكأن أميركا مهتمة كثيراً لهذا الأمر، وهي التي أجهضت العملية في مهدها من خلال الحملة التي شنتها ضد الرئيس الفلسطيني لأنه تقدم بهذا الطلب. ومن خلال الإعلان المباشر والواضح أنها ستستخدم حق quot;الفيتوquot; وسترفض انضمام فلسطين إلى هيئة الأمم المتحدة. كذلك فقد أعلن السفير الأميركي في اليونسكو ديفيد كلينون quot;إن الولايات المتحدة تدعو كل الوفود إلى الانضمام للولايات المتحدة عبر رفض هذه التوصيةquot;.


لكن الموقف الأوضح جاء من رئيسة لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي quot;إليانا روس ليتنينquot;، التي دعت إلى خفض تمويل الولايات المتحدة لليونسكو إذا تمت الموافقة على الطلب الفلسطيني. وقالت:quot;هذه محاولة للتلاعب بالعملية يجب وأدها في مهدها. إسهاماتنا المالية هي أقوى رسائل التأثير لدينا في الأمم المتحدة، ويجب استخدامها للدفاع عن مصالحنا وحلفائنا ووقف الخطة الفلسطينية الخطيرةquot;.
والمعلوم أن أميركا غابت عن اليونسكو مدة 19 عاماً وانكفأت بطبيعة الحال عن تقديم الدعم للمنظمة لكن هذه الأخيرة استمرت في عملها. وعندما قررت أميركا العودة في 2003 كان السبب انعقاد المؤتمر العام للبحث في مواضيع عديدة أهمها اتفاقية التنوع الثقافي. جاء وفد كبير من أميركا، ليقود ليس معركة العودة إلى المنظمة، بل معركة عودة المنظمة عن محاولة إقرار هذه الاتفاقية! أميركا لا تريد التنوع الثقافي. أميركا تريد السوق المفتوحة للأقوى. تريد إسقاط الهويات الثقافية للدول الأخرى أو الهيئات أو المجموعات. الهويات السينمائية والإنتاج الثقافي المختلف الأوجه. وقد خضنا يومها معركة كبرى في وجه هذه المحاولة وخلقنا مناخاً قوياً ضد هذه السياسة الأميركية ... (وقد كنت وزيراً للثقافة في لبنان في ذلك) واستكملنا عملنا على مستوى منظمة الفرانكفونية. لكن تقاعساً كبيراً ميز ولا يزال يميز الموقف العربي. بالأمس استقوى المتطرفون في أميركا على طلب quot;أبومازنquot; انضمام فلسطين إلى الأمم المتحدة، بالتلويح بوقف المساعدات للسلطة الفلسطينية وقيمتها 500 مليون دولار. واليوم يستقوي الأميركيون بوقف تمويل اليونسكو. وكل هذه المبالغ لا توازي شيئاً من الإمكانات العربية التي يمكن استخدام الجزء البسيط منها في مثل هذه العملية لتعزيز الحضور الفلسطيني والدور الفلسطيني في السعي إلى الانضمام إلى اليونسكو على الأقل.

وأميركا أيضاً، تريد استكمال كل حلقات الدعم لإسرائيل التي خرج بعض أركانها ليقول: quot;تحرك الفلسطينيين ينكر وجود مفاوضات ثنائيةquot;! موقف خبيث. من يرفض المفاوضات؟ من يدمّر المفاوضات؟ من ينكر وجودها الفعلي؟ من يتنكّر لكل الاتفاقات ويستمر في ارتكاب المجازر الفردية والجماعية وفي التوسع والاستيطان؟ أليس جيش الإرهاب الإسرائيلي بقرار واضح من الحكومة الإسرائيلية؟

وقال مسؤولون في الخارجية الإسرائيلية quot;إن ما يقوم به الفلسطينيون هو ردّ سلبي على الجهود الإسرائيلية وجهود المجتمع الدولي لتعزيز عملية السلامquot;.

أين هي الجهود الإسرائيلية لتحقيق السلام؟ ألم يشكو معظم أعضاء المجتمع الدولي السياسة الإسرائيلية القائمة على التعنت ورفض التوصل إلى سلام مع الفلسطينيين؟ وهل السياسات الإسرائيلية المذكورة تؤدي إلى سلام واستقرار؟

إن الموقف الأميركي ndash; الإسرائيلي لا يحمل جديداً على الإطلاق، هو يعبّر عن التزام بمصالح إسرائيل الاستراتيجية العليا وبالتنكر الفعلي لأبسط حقوق الشعب الفلسطيني. وفي الموقف من الانضمام الفلسطيني إلى اليونسكو ثمة محاولة لإلغاء هوية الشعب الفلسطيني وثقافته وخصوصيته وبالتالي محاولة لإلغاء شخصيته المعنوية والتاريخية والسياسية والإنسانية ويصبّ في خانة السياسات الإرهابية التي تمارسها الحكومة الإسرائيلية باستمرار ضد هذا الشعب في مختلف المجالات.

إن موقفاً من هذا النوع، يعتبر ضرباً للحرية والديموقراطية اللتين تطالب أميركا بتعميمهما في المنطقة. وهو ينطلق من نظرة عنصرية متطرفة ضد الشعب الفلسطيني وتاريخه وحقوقه وحاضره ومستقبله. وهو بالتأكيد لن يساهم في تعزيز مناخات التفاوض ولا أقول السلام. فإذا كان ممنوعاً على أبناء هذا الشعب البقاء في أرضهم، وعودة اللاجئين إليها، وتسمية الشوارع والمناطق بأسماء عربية، بأسماء رموزهم، وإذا كان ممنوعاً عليهم التعلم وتدريس لغتهم وتاريخهم الصحيح وإبقاء ذاكرة أبنائهم حيّة على هذا التاريخ بمحطاته المختلفة، وإذا كان شعراؤهم وأدباؤهم ومفكروهم وعلماؤهم ومثقفوهم محكومين بالإعدام والقهر والمطاردة، فكيف يمكن أن تتوفر أجواء للتفاوض وكيف يمكن توفير أمل بالوصول إلى نتيجة إيجابية؟

إن الموقف الأميركي ndash; الإسرائيلي الأخير في اليونسكو يستوجب وقفة عربية إسلامية دولية من الدول المناهضة للسياسة الأميركية والداعمة لحق الشعب الفلسطيني، وقفة ثقافية فنية علمية أكاديمية تربوية... لتكريس حق الشعب الفلسطيني المبدع الغني بالطاقات والكفاءات، وعلى العرب توفير الدعم المالي للفلسطينيين لاستكمال تحركهم في كل الاتجاهات ومنع كل محاولات إسقاط حقوقهم من خلال التأثير المالي كما يؤكد المسؤولون الأميركيون في اعتمادهم على هذه الوسيلة لتحقيق غرضهم.

إن موقفاً عربياً من هذا النوع ليس دفاعاً عن الفلسطينيين وحدهم فقط، وهذا أمر مشرّف، لكنه دفاع عن كل العرب وخصوصاً في هذه اللحظة بالذات. فأن تذهب إسرائيل في حركة دائمة متعددة الاتجاهات لمنع الفلسطينيين من تحقيق هدف في الأمم المتحدة أو اليونسكو في ظل هذا الوضع العربي المتدهور، فهذا بحد ذاته مدعاة لاهتمام عربي لأن في ذلك إشارة إلى أن الواقع الإسرائيلي واقع مأزوم هو الآخر، وثمة قلق على المستقبل في الصراع مع الفلسطينيين، وبالتالي ثمة فرصة لخلق الكثير من الإرباكات في وجه إسرائيل على الأقل، ولمواجهة السياسة الأميركية المأزومة هي الأخرى في أكثر من مكان في العالم...