علا شيب الدين
لم يكن أحد ليصدِّق أن تستمر الثورة السوريّة وتتجذّر؛ فالثورة منذ اندلاعها ترافقت مع القتل اليومي والاعتقال والتعذيب والإهانة والتهجير والتنكيل بالشعب المنتفض بشكل مدروس وممنهج، مع غياب تام للإعلام الحرّ المستقل، وللمنظمات الحقوقيّة الدولية. جيش، جيش كامل العدّة والعتاد يخوض حرباً حقيقية ضد شعب يُفترض أنه حاميه وحامي دياره. وهي ثورة محاطة بالأعداء منذ اللحظة الأولى لاشتعالها.
فما السرّ في استمرار ثورة محاطة بالأعداء إذن؟ أظن أنه ليس من سر سوى الإرادة والإيمان العميق بالحرية يكلّله سخط وألم عميقان، لا بل إن هذا هو المصدر الحقيقي لقوة الثورة وصدقها، ومنبع تطورها وتصعيدها، إذ لا شيء يعلو على الإرادة الإنسانية إذ quot;تتعاطفquot; مع قضية حرّة هي قضيتها وشأنها الذاتي والمصيري، لا البعيد الموضوعي. إنها قوة quot;العاطفةquot; التي تبعث الروح والحياة في الصدور، وبلغة برغسون هي الدفعة الحيوية (Elan Vital) إذ تبدع أخلاقاً حركيّة تمثل جوهر الحياة وقواها الخلاقة. حقاً إن الإنسان السوري لم يتحرر للآن بالمعنى المادي للكلمة، أي أن السلطة الحاكمة منذ عقود لم ترحل بعد؛ لكنه تحرر روحاً وعقلاً وعاطفة وإرادة وربما يكون هذا هو السبب المباشر لمواجهة المتظاهِر للدبابة والمدفع والرشاش بصدرٍ عارٍ مفعم بإيمان فذ بالحرية وبالنصر المحقق عاجلاً أم آجلاً.
إن الإنسان السوري الجديد هو إنسان قوي وقادر على الفرح والتجاوز والاحتمال رغم كل ما يقاسيه طالما أنه ما عاد ذلك المكسور المهزوم، والقسوة اليوم ربما أهون من قسوة عقود من الإنهاك اليومي الذي طالما فتك بالكيان الإنساني عبر العمل الممنهج على تخريبه وإفساده، وما عادت العودة إلى ذلك العهد إلا ضرباً من المستحيل.
هكذا؛ فإن الحديث عن الإصلاح في السلطة نفسها أو الحوار معها، لا ينطوي فقط على خديعة كبرى لشعب دفع ويدفع الغالي والرخيص ثمناً للحرية بمفهومها الكامل غير المجتزأ، بل أيضاً ينطوي على سذاجة وقصور في الرؤيا، ذلك أن ما يجري في سوريا ثورة شعبية.
ويبدو أن وحدهما السلطة - ضمنيّاً- والشعب الثائر يدركان أن حقيقة ما يجري في سوريا هو quot;ثورةquot;. واستناداً إلى تلك الحقيقة فمن المنطقي جداً ألا تستجيب السلطة لدعوات وقف quot;الحل الأمنيquot; وسحب الدبابات من الشوارع وإعادتها إلى ثكناتها؛ لا بل ربما من غير المنطقي أن يُطلب من سلطة تعرف حق المعرفة أن أوان زوالها قد حان - لكنها تكابر ولا تعترف- سحب جيشها من شارع يعجّ بثورة شعب غايته الحرية عبر إسقاط سلطة يعرف أنها فاقدة للشرعية، فكيف لها أن تصلِح أو تحاور؟ وبأي حق؟
وصحيح أن في بقاء الدبابات والأمن والميليشيات الحكومية (الشبيحة) في الشوارع بقاء للسلطة بالمعنى القمعي للكلمة، بعد أن زالت سياسياً وقيميّاً، لكن المفارقة هي أنه في ذلك البقاء نفسه زوالاً للسلطة أيضاً، وأظن أن الرهان يكمن في الآتي: إلى متى ستبقى الدبابات وفرق الموت في الشوارع؟ وإلى متى ستبقى مقدرتها وفاعليتها هي ذاتها من دون أن تتأثر بعوامل موضوعية أو ذاتية داخلية، أي داخل منظومة السلطة وتركيبتها نفسها؟ ترى كيف ستستمر الأمور بهذا الشكل؟. إن الإجابة على هذه الأسئلة تتأتى ربما عبر التنبّه إلى quot;التآكلquot; الذي تُستوفى كل شروطه في ظل مناخات quot;الحلquot; الأمني المستمر؛ فمنذ البداية نحن أمام طرفين متصارعين، الشعب كطرف سلمي وإرادوي وقيمي يحركه الإنسان، وهو مؤمن بقضية عادلة ومستعد للموت من أجلها، وقاعدته الأطفال والنساء والشباب والشيوخ. والسلطة كطرف آخر ذكوري غرائزي وعنفي وأداتوي تحركه الآلة، آلة البطش، بعد أن أفرغ من كل قيمة ومبدأ ورادع أخلاقي وإنساني.
ويبدو أن الإنسان حين تتعرض حياته للتهديد يبدأ بالحياة، من هنا قد نستوعب ما الذي يعنيه أن يقيم الشعب الثائر أعراس الحرية وكرنفالات الفرح الأكبر الممهور بالأهازيج والبالونات الملونة وأغصان الزيتون بعد كل عملية تنكيل يتعرض لها؛ مبدِّلاً الطاقة السلبية اليائسة والضعيفة بأخرى قادرة على تسطير بطولات ملحميّة تؤسِّس لزمن ديمقراطيّ مدنيّ قادم فحواه أخلاقيّة السّلم والتسامح، مقابل سلطة لا حيلة لها سوى الحديث المكرور الممل عن quot;عصابات مسلحةquot; تزعزع أمن واستقرار بلد ما عاد جيشه ولا أمنه ولا استخباراته قادرة على ردعها!
إذاً، نحن أمام منعطف تاريخي: شعب يبدأ وسلطة تتأكل وتنتهي. شعب حي ويطوّر من نفسه ومن أدواته الإبداعيّة الثورية السلميّة يوماً بعد آخر من دون كلل أو ملل؛ في حين أن السلطة ما عاد وجودها إلا وجود موت وأموات وحتى في عمق فاعليتها هي ميتة، تقتل وهي ميتة، فيما الشعب يحيا مع أنه يموت! وبين ثنائية الحياة والموت، والبداية والنهاية والجدل الدائر بينهما دائماً وأبداً؛ تسقط كل الترهات المرتبطة بـquot;بعبعquot; الأصوليات الدينية، أو بالحرب الأهلية، أو الطائفية التي ما انفكّت السلطة تهدد بها عبر عنوان عريض (إما أنا وإما الفوضى). وبلغة الطب هذه السلطة هي نواة سرطانية، وموت النواة يعني الشفاء من مرض عضال، والدخول في مرحلة أخرى جديدة ومختلفة تلتفت إلى معالجة أمراض أخرى كاستمرار لثورة هي مشروع دائم ومسار..
التعليقات