علي جرادات
بعد شهور على انطلاقة الحراك الشعبي السوري، يتضح أكثر كَمْ كان اعتماد النظام السوري للمدخل الأمني منطلقاً أساسياً للمعالجة، خاطئاً، بل شكل خطراً على النظام وسلمية الحراك من جهة، وعلى سوريا الدولة والمجتمع والدور والنسيج الوطني، من جهة أخرى . الشبيبة التي نهضت وأشعلت الشرارات الأولى للحراك الشعبي السوري قبل شهور، كانت على قدرٍ عالٍ من النضج والمسؤولية الوطنية، حين نأت بنفسها عن أي شكل من أشكال الاستعانة بالأجنبي وتدخلاته، واكتفت في البداية بمطالب الإصلاح، ولم ترفع منسوبها إلى درجة المطالبة بإسقاط النظام، كما فعلت شبيبة تونس ومصر واليمن وليبيا، ذلك ليس لأن هذه الشبيبة المعبِّرة عن حس الشعب السوري، ترى في النظام السوري نظاماً أقل استبداداً وطغياناً وتعسفاً من بقية الأنظمة العربية التي طالها حراك شعوبها، بل، لأنها، ومعها الشعب السوري عموماً، تعي خصوصية سوريا الموقع والدور في معادلات الصراع العربي مع العدو الصهيوني، ولأنها تدرك أن هذا العدو مع حليفه الاستراتيجي الثابت، أمريكا، والدول الغربية ذات الماضي الاستعماري عموماً، حتماً سيدخلون على الخط، ربما ليس بهدف إسقاط النظام، بل، بهدف زعزعته وإضعافه وابتزازه، على طريق ضرب ممانعته الوطنية، ذلك رغم وعيها أن ممانعة النظام تقوم أصلاً على معرفة ما لا يريد، لكن من دون العمل الجاد على توفير الاستحقاقات اللازمة لما يريد، وأولها، بل، أهمها، توافر الشرط الديمقراطي الداخلي، الذي يحصّن الجبهة الوطنية، ويحميها من التصدع، ويمنع قابليتها الداخلية لاستدعاء التدخلات الخارجية واستقدامها .
واليوم، فإن التدخلات الخارجية الجارية على قدم وساق في الملف الداخلي السوري، باتت تنذر بالخطر أكثر فأكثر، لاسيما بعد أن حظيت بتأييد، بل، بمطالبة، جناحٍ من المعارضة السورية ابتعد عن السيناريو التونسي والمصري، الذي تسير شبيبة اليمن على هديه بطول نفسٍ فاجأ الجميع، وبمسؤولية وطنية منقطعة النظير، لتستحق عن جدارة احترام الجميع، باستثناء أعدائها، الداخليين والخارجيين .
ومن أسف، أن يستوحي هذا الجناح من المعارضة السورية السيناريو الليبي حتى في تسمية ما انبثق من اجتماعه في اسطنبول من إطار سياسي، أي المجلس الوطني السوري، الذي بغض النظر عن طبيعة ما يرفعه من تبريرات وما يطرحه من صيغ لتسويغ خيار الاستعانة بالدول الغربية ذات الماضي الاستعماري، إنما يكون، بمعزل عن النوايا، التي ليس نادراً ما تفضي حتى الطيبة منها إلى بلاط جهنم، قد وقع في خطيئة تسهيل الطريق أمام تدخلات أصل الداء والبلاء والحليف الاستراتيجي الثابت والاستثنائي للكيان الصهيوني، المطلوب ضمان تفوقه على ما عداه من دول المنطقة . وسوريا الدولة، بمعزل عن طبيعة النظام الحاكم فيها، من أهم هذه الدول، ذلك باعتبار أنها دولة متاخمة لفلسطين، وأن جزءاً من أراضيها، (هضبة الجولان)، ما زال محتلاً . هذا ناهيك عن حساسية تشابك موقعها مع دول وقوى عربية وإقليمية أخرى، ذات تأثير مباشر أو غير مباشر في صراعات المنطقة، آخذين في الاعتبار انعكاسات كل ذلك على حسابات الدول العظمى، والغربية منها بخاصة، في السيطرة على هذه المنطقة وثرواتها الهائلة، التي يلعب الاستفراد في نهبها دوراً أساسياً في السيطرة على العالم وثرواته، وبالتالي على النفوذ في السياسة الدولية ومؤسساتها وقراراتها، وبضمنها القرارات المتعلقة بالصراع العربي الصهيوني، وجوهره القضية الفلسطينية .
أجل، لم يفصل النظام السوري بين المطالب الشعبية المشروعة والعادلة من جهة، وبين مجموعات مسلحة مريبة الهدف والدوافع، وجرى تضخيمها، من جهة أخرى، ولم يغتنم كل ما أتيح له من فرص لتجنيب سوريا الدولة ما يتهددها اليوم من مخاطر جدية، بل، أضاعها، عندما ldquo;ركب رأسهrdquo;، وأوغل في إدماء شعبه، رغم إقراره قبل غيره، بعدالة مطالبه ومشروعيتها، بل، لم ينفك يعلن عن عزمه على تلبيتها، وذلك حتى قبل انطلاق الحراك الشعبي بسنوات .
عليه، لم يكن غريباً، (وإن يكن غير مقبول)، بالنسبة لكل ذي بصيرة قادرة على سبر غور التناقضات الراهنة للحالة السورية، وليس لمحها فقط، استشراف أن يفضي إيغال النظام السوري في اللامعقول من طغيانه إلى إفراز اللامقبول من الخيارات في مواجهته، ليقود هذا وذاك، بمعزل عن اختلاف المصالح والنوايا والمنطلقات، إلى النتيجة ذاتها، أي تسهيل الطريق أمام التدخلات الخارجية، والغربية بقيادة أمريكية منها بخاصة، التي لا يخفى على أحد ترابطها العضوي مع مخططات الكيان الصهيوني ودوره السرطاني في المنطقة . والغريب ألا يشكل ما جرى للعراق الدولة والمجتمع والدور درساً لحماية سوريا من الوقوع في الورطة ذاتها . لقد ذهب العراق الدولة ضحية لطغيان نظامه الذي أعطى للولايات المتحدة ذرائع التدخل في سيادة العراق في لحظة انتصارها في الحرب الباردة، وتسيُّدِها قطباً وحيداً في السياسة الدولية . والخشية كل الخشية أن يقود طغيان النظام السوري سوريا الدولة، إلى المصير ذاته، وعبر السيناريو ذاته، وإن اختلفت أشكاله التطبيقية، في لحظة تزعزع نظام القطب الواحد، لمصلحة نظام دولي متعدد الأقطاب، باتت ملامح ولادته بادية . وبكلمات ثلاث: سوريا في خطر .
التعليقات