ظافر محمد العجمي

يعني الانضباط laquo;Disciplineraquo; القدرة على التحكم في النفس، وترويضها بالبعد عن الأهواء، ذلك الانضباط هو الذي جعل الشيخ د. محمد صباح السالم الصباح لا يتطرق في أحاديثه لقضايا السياسية المحلية في وسائل الإعلام منذ أن حمل حقيبة الخارجية 2006. لأن في ذلك تشويه طبيعة الالتزامات التي يفرضها المنصب، لكن اتّساع مساحة التيقن لديه من أن الأخطار الداخلية التي تواجه الكويت أعظم من الأخطار الخارجية، جعلته يطلب باستقالته سرعة تشخيص طبيعة ومكامن الألم في شرايين وطنه الكويت. فالمسألة لم تكن مفاضلة بين الانضباط المهني، والتحلل منه، بقدر ما هي خياران بين الخطأ والصواب. وحتى لا أغرق في المقدّمات، أستطيع القول إنه كان ساخطا على معالجين بقوا بموجب ديناميات الفساد خارج قيود المحاسبة، رغم وضوح مسؤوليتهم عن تردي الحالة التي بين يديهم، وهذا ما دفعه للقول (يجب محاسبة أي شخص متورط في الفساد أيا كان ومهما علا شأنه).
رحل الشيخ محمد كما يرحل الكبار بسلاسة وهدوء الدبلوماسيين، فقد سلم محتويات حقيبة الخارجية لجيل من مخرجات المعهد الدبلوماسي الذي أسسه قبل سنوات. ورحل كما يرحل الرجال الرائعون دائما، تاركا صدى كلماته كناقد لا كحاقد.
كان الوزير محمد قامة دبلوماسية خليجية لا تخطئها عين، فبعد تراجع البعد العربي في السياسة الخارجية الكويتية جراء خيبة أملنا في نظام الأمن العربي بعد الغزو، التوينا بخليجيتنا، وتذرينا بهياكل مجلس التعاون السياسية والاقتصادية والدفاعية. كان خليجيا في المقام الأول، فمد يد الخليج لآسيا ولأوروبا لحاجتنا لقيم التطور الاقتصادي والصناعي هناك. كما كان الشيخ محمد الأكاديمي خريج هارفارد خليجيا في موقفه من مفردة الخليج وقوله (هو خليج عربي بالنسبة لنا وفارسي بالنسبة للإيرانيين) مما جعله هدفا لحملة مسعورة دعا فيها موقع (تابناك) الإيراني الإخباري طهران لإعلان الكويت المحافظة 29 باسم (كويت إيران) نكاية بمحمد وتصريحه. كما كان خليجيا في تعامله مع ملف الجرف القاري بين إيران والكويت والسعودية، واعتبر المماطلات الإيرانية شوكة في خاصرة العلاقات المتبادلة. وكان خليجي الصوت ساخطا على غطرسة حكومة نجاد مؤنبا إياها على التصرف بغير حكمة حيال شبكة التجسّس في الكويت. وبتدخلها في الشأن البحريني، عبر خطوة لم يفعلها وزير خارجية خليجي آخر حيث ذهب لتفقد القوة البحرية الكويتية هناك، وقال: إنه لشرف عظيم لي أن أكون معكم. ونحن فخورون بالعمل الذي تقومون به، أما موقفه ولغته حيال قضية الجزر الإماراتية في مجلس التعاون وفي الأمم المتحدة فقد جعلته هدفا للإساءة وجعلت الكويت هدفا للتهديد أكثر من مرة، ومن ذلك هجوم النائبين في مجلس الشورى الإيراني حشمت الله بيشه وحسن كامران، مما يدل على حجم وقوة ما قاله. كما كان خليجيا في دعم المملكة العربية السعودية حين طردت فلول المتسللين الحوثيين 2009م، فقد أنجزت الكويت حينها الاستراتيجية الدفاعية الخليجية، ودفعت بتشكيل لواء التدخل السريع. وفي زمن علو الصوت الخليجي في الربيع العربي كان هو الصوت الخليجي الأول ضد طغيان نظام دمشق، أعقبه بيان مجلس التعاون الذي استقى مفرداته من كلمات د. محمد الصباح. وآمن الشيخ بضرورة أن يكون للخليجيين دور أكبر في عمل الجامعة العربية وتحقق له مسعاه وتم تعيين أكثر من دبلوماسي خليجي في مكاتب الجامعة في أوروبا . كما آمن د.محمد الصباح بالعمل الخليجي في أعلى أهدافه فتم تحت رعايته افتتاح مؤتمر وحدة الخليج في يناير2010، بل ألقى الكلمة الرئيسية فيه. كما آمن بأن الكونفيدرالية الخليجية خطوة مستحقة. وشدد على أمن الخليج، فقلقنا كما صرح مرة ﻟﻴس ﻣﺒﻨيا ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻘﻠق ﺍلدﻭﻟﻲ، قلقنا ﻣﺒﻨﻲ ﻋﻠﻰ ﺍﻟوﺍﻗﻊ ﺍﻟﺤﻴﺎتي ﺍﻟﺘﻲ تعيشه. وقد يقول البعض إن من مهام عمله كوزير للخارجية أن يصرح بما ذكرنا، لأن ذلك هو موقف دولة الكويت، ونقول: إن روسيا وفي تلاعب دبلوماسي بالألفاظ ولتحاشي القول إنه قد ألقي القبض عليه ثم قتل، قالت إن القذافي قد انتهى هروبه. فهل كان د.محمد الصباح مراوغا في تصريحاته متدثرا ببرود المفردات الدبلوماسية أم كان أوضح من يضع النقاط على الحروف ويسمى الأشياء بأسمائها؟
ذات يوم من سبتمبر أخرج بوصباح من علبة فاخرة في مكتبه سيجارا كوبيا، وقال تعال خارج المكتب فأنا الذي وقعت أمر منع التدخين في مكاتب الوزارة. ومن شرفة مطلة على البحر سألني لماذا لا تكتب في الشأن السياسي المحلي! فأجبته بأنني عسكري منعت طوال حياتي من الخوض في المماحكات السياسة المحلية، فتعودت على ذلك الانضباط وكتبت في القضايا الخليجية. استقال بو صباح فكسرت ذلك الانضباط بكتابة هذا المقال. وبقي انضباط بو صباح الذي منع وزيرا من التدخين في مكتبه. ثم منعه من الاستمرار في منصبة لأن الانضباط، هو الحالة العقلية والنفسية، التي تجعل السّلوك الصحيح، أمراً غريزياً في النفس، مهما كانت الظروف، لذا كانت استقالته هي السلوك الصحيح، فخلق من نفسه مجددا رقما صعبا.