محمد السماك


ليس صواباً التساؤل عما إذا كانت المخاوف المسيحية من quot;الربيع العربيquot; لها ما يبررها. لعل الصواب هو التساؤل كيف يمكن توظيف المخاوف المسيحية لدفع حركة quot;الربيع العربيquot; قدماً إلى الأمام.

إن من طبيعة حركات التغيير أنها تفتح آفاقاً واسعة أمام قوى تجد في التغيير مدخلاً لطرح ذاتها بديلاً، ومناسبة لفرض مبادئها وأفكارها وتطلعاتها. وأن تجد في التغيير، مناسبة ومدخلاً لطرح ذاتها بديلاً. ومن هذه القوى جماعات التطرف الإسلامي، وسواها من الجماعات السياسية أو المسيَّسة. وإذا كان من حقها اقتناص الفرصة المؤاتية، أية فرصة، فإن من حق مسيحيي الشرق أيضاً الإعراب عن مخاوفهم من الشعارات التي يرفعها بعض هذه القوى ويسعى إلى تنفيذها. ومن هذه الشعارات ما يدعو إلى اعتماد الشريعة الإسلامية مصدراً وحيداً للتشريع، وذلك في ضوء الاعتقاد الاحتكاري للحقيقة.. وهو اعتقاد الغائي للآخر المختلف، أيّاً كان هذا الآخر، مسلماً أو مسيحيّاً.

نحن هنا أمام حقين شرعيين ولكنهما متناقضان؛ حق الحركات الإسلامية المتطرفة باستغلال الفرصة في إطار الممارسة الديمقراطية المفتوحة، وحق الجماعات الوطنية المسيحية بالخوف من النتائج التي لابد أن تترتب على سوء استغلال هذه الفرصة. وعندما أقول quot;نحنquot; فأعني الأكثرية الساحقة من جماعة المسلمين الذين يؤمنون بإسلام الاعتدال والوسطية. إن لهذه الجماعة أيضاً حق العمل على تدارك الخطر قبل وقوعه، وعلى قرع أجراس الحذر والتنبيه كحد أدنى. ولها، كحد أقصى، أن تذهب إلى توظيف المخاوف المسيحية لكبح جماح التطرف الإسلامي.

فإذا مضت حركات التطرف قدماً في محاولاتها بعد ممارسة الحق الأدنى، كما تشير إلى ذلك مع الأسف أحداث مصر الدامية والمفجعة، عندئذ يصبح اللجوء إلى الحد الأقصى واجباً وحتميّاً.

ولممارسة هذا الحد الأقصى، لابد من الإقرار بأن المخاوف المسيحية لها ما يبررها، وأنها مخاوف غير مصطنعة وغير مبالغ فيها. وأنها غير موحى بها من خارج، ولا تعكس مشاعر ضعف الانتماء إلى الجماعة الوطنية ولا تعبر عن الثقة ببعض الأنظمة القمعية التي تستهدفها حركات التغيير، ولا عن الرضى بسياساتها القمعية الاستبدادية، ولكنها تعبر عن مشاعر حقيقية وجادة من احتمالات ليِّ ذراع حركات التغيير بحيث تمكن متطرفين إسلاميين من القفز إلى مقاعد السلطة.

وإذا حدث ذلك، وهو احتمال يصعب تحديد نسبة نجاحه أو فشله، فإن ضحاياه لن يكونوا المسيحيين المشرقيين وحدهم، ولكن موجة من التطرف سوف تجتاح الاعتدال والوسطية في محاولة لتحويل دول العالم العربي إلى ما يشبه باكستان أو يكون قريباً من أفغانستان أو حتى إيران. وهذا الاحتمال مهما كان ضئيلاً، فإنه يشكل خطراً على الهوية العربية التي يشكل المسيحيون ركناً أساسيّاً من أركانها الحضارية والثقافية، وحتى على الإسلام نفسه الذي يؤمن بالمسيحية رسالة من عند الله، كما يؤمن بحق المسيحيين في أن quot;يعملوا بما أنزل الله في الإنجيلquot;، أي وفق شريعتهم؟

وهنا تلتقي المصالح القومية والدينية بين عامة المسلمين وعامة المسيحيين في الشرق لتحقيق هدفين متكاملين: الهدف الأول هو المضي قدماً في عملية التغيير نحو الديمقراطية والحرية واحترام حقوق الإنسان وتحقيق المساواة في المواطنة في دول مدنية حديثة منفتحة على الحضارة الإنسانية. أما الهدف الثاني فهو التصدي معاً لمحاولات اقتناص عملية التغيير وتحويلها عن مسارها الإصلاحي، ولقطع الطريق أمام قوى التطرف التي تسعى إلى مصادرتها.

وفي إطار هذا التلاقي، فإن من الخطأ أن يكون الإسلام المعتدل، والمسيحيون، طرفاً مع حركات التطرف الديني، ومع الأنظمة المستهدفة بالتغيير، في الصراع على quot;الربيع العربيquot;. إن الصواب يقتضي أن تتلاقى جهود المسلمين والمسيحيين وأن تتجمع إمكاناتهم وأن تصفو نواياهم ليكونوا في جبهة واحدة. وهذه عملية قد تبدو معقدة وصعبة. ولكن ثمة سوابق عديدة ناجحة في تاريخ العيش الإسلامي المسيحي المشترك يمكن الاستنارة بها لاستيلاد سابقة جديدة تؤسس لمستقبل جديد. ومع ذلك لابد من الإقرار بأنه لا يمكن أن يتحقق ذلك إذا لم يثق المسلمون بأن الخوف المسيحي حقيقي ومبرر. وإذا لم يثق المسيحيون بأن المسلمين ليسوا جماعة تطرف، وبأنهم يشاركونهم الخوف من التطرف. إذا توفرت هذه الثقة المتبادلة، فإن الخوف المسيحي سوف يعزز التوجه الإسلامي القائم على أساس العمل على كبح جماح التطرف من الداخل، أي من الداخل الإسلامي، ومن الداخل الوطني معاً.

في الأساس فإن الخوف المسيحي ليس خوفاً من الإسلام، ولكنه خوف من التطرف الإسلامي. وفي الأساس أيضاً، فإن التطرف الإسلامي ليس مخيفاً للمسيحيين وحدهم، ولكنه يخيف عامة المسلمين أيضاً.

ومن هنا، فإن الخوف المسيحي ليس -ولا ينبغي أن يكون- مخيفاً للمسلمين، ولكنه يشكل -وينبغي أن يشكل- حافزاً لهم للتصدي للتطرف الديني الذي يستهدفهم جميعاً. وعندما يدرك المسلمون هذه الحقيقة يصبح الخوف المسيحي أداة للاستقواء الإسلامي- المسيحي المتبادل وليس إسفيناً لشق صفوفهم كما يجري تسويقه في الوقت الحاضر.

لقد تعايشت المسيحية مع الإسلام قروناً طويلة، وواجه هذا التعايش فترات تعاون وثيق وصراع، ولكن لا المسيحية ولا الإسلام قادر على التعايش مع التطرف. ذلك أن التطرف مناقض لقيم السماحة والمحبة التي تقول بها الديانتان السماويتان. أما التطرف فإنه يذهب في اعتقاده الخاطئ بامتلاك الحقيقة المطلقة، إلى حد التنكر للآخر ومحاولة إلغائه.

منذ عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم عاشت المسيحية مع الإسلام بأخوة إيمانية. وتجسد ذلك في التعهد بحماية ديانة المسيحيين وكنائسهم وأديرتهم، كما تجسد بدعوة المسلمين إلى المساهمة في بنائها وترميمها quot;هبة إلى الله تعالىquot; (عهد نصارى نجران)، وليس بفرض الشروط على بنائها وترميمها.

إن التطرف الذي يلغي هذه الثوابت الإيمانية يسيء إلى الإسلام أكثر مما يسيء إلى المسيحيين. ولذلك فإن من حق المسلمين بل من واجبهم أن يتصدوا له.. وسيكون هذا التصدي أكثر فعالية إذا تم بالتعاون مع مواطنيهم المسيحيين، لأنه يكون تعاوناً إسلاميّاً مسيحيّاً، وتعاوناً وطنيّاً وقوميّاً في وقت واحد. وهو أفضل ما يقدم إلى quot;الربيع العربيquot;، وأفضل ما يقدمه quot;الربيع العربيquot; لنفسه وللعالم.