كتب: Mathieu von Rohr

بعد الانتكاسة الكبرى التي واجهتها النخبة التونسية، يبدو أن حزب النهضة الإسلامي يستعد لقيادة أول حكومة منتخبة ديمقراطياً في البلاد. ويبدو أن الإسلاميين كسبوا تأييد عامة الشعب الذي كان يبحث عن مصداقية أكبر في عالم السياسة. لكن تبقى المخاوف من أن تتحول تونس إلى نظام ديني جديد مبالغاً فيها، لأن الإسلاميين التونسيين يتطلعون إلى تركيا كنموذج يُحتذى به.
سُجّل فوز الإسلاميين المعتدلين في حزب النهضة هذا الأسبوع في أول انتخابات حرة تشهدها تونس على الإطلاق. لم يُعرَف عدد الأصوات التي حصلوا عليها بالتحديد حتى الآن، لكن تشير جميع التقارير الصادرة عن الدوائر الانتخابية المختلفة إلى أنهم سيحصلون على 40 في المئة تقريباً من المقاعد في التجمع الدستوري الجديد. يشعر كثيرون في الغرب بالارتباك والقلق بسبب هذه النتائج. فهم يتذكرون مشهد الشباب الذين احتفلوا في شوارع تونس بالحرية التي اكتسبوها بعد إسقاط الحاكم التونسي الديكتاتوري في شهر يناير. لكن هل فاز الإسلاميون الآن؟ كيف يُعقَل أن يصوّت الناس، في أول استحقاق انتخابي حر، لمصلحة أحزاب دينية؟ حتى أن صحيفة ldquo;بيلدrdquo; الألمانية ذهبت إلى حد طرح السؤال الآتي: ldquo;هل نستطيع أن نقصد تونس لقضاء العطلة بعد اليوم؟rdquo;.
يسهل الربط بين أنباء فوز الإسلاميين في تونس وأنباء إعادة السماح بتعدد الزوجات في ليبيا. لكن الاختلاف بين البلدين شاسع. في المقام الأول، لا تُعتبر نتائج الانتخابات التونسية مفاجئة بأي شكل، ولا شيء يدعو إلى الهلع أصلاً.
قبل كل شيء، ما حصل هو انتصار للديمقراطية. أُجريت انتخابات يوم الأحد قبل الماضي من دون تسجيل أي مشكلة، وقد كانت منظمة وحرة وعادلة بشكل متكامل، وهذا ما أكده جميع المراقبين الدوليين. وشارك في الانتخابات أكثر من 50 في المئة من الناخبين المؤهلين. إنها أنباء سارة في بلدٍ يشهد أول انتخابات ديمقراطية على الإطلاق. فضلاً عن ذلك، صوتت نسبة كبيرة من الشعب لمصلحة أحزاب لها ميول دينية.
إسلاميّو تونس معتدلون
من غير المتوقع أن تصبح تونس نظاماً دينياً مشابهاً للنظام الإيراني. فمن المعروف أن أغلبية الإسلاميين في حزب النهضة هم من المعتدلين. لطالما شدد زعيم الإسلاميين راشد الغنوشي على أن حزبه يدعم المساواة بين الجنسين، وفق ما ينص عليه الدستور القديم، وقد أعلن أن حزبه لن يُجبِر النساء على ارتداء الحجاب. وأضاف أن الحزب لا ينوي تشريع تعدد الزوجات مجدداً أو فرض عقوبات متطرفة. يحب الغنوشي المقارنة بين مواقف حزب النهضة ومواقف الإسلاميين المعتدلين في حزب العدالة والتنمية الذي يحكم تركيا.
لا شك في أن حزب النهضة هو حركة واسعة تشمل فصائل متحفظة أكثر من قيادة الحزب الراهنة. لكن لم يدعم معظم الناخبين حزب النهضة بسبب ميلهم إلى نشوء نظام ديني متشدد. بل إنهم اقتنعوا بمصداقية الحزب وتأثروا بقربه من عامة الشعب. غداة استقلال تونس عن فرنسا في عام 1956، خضع البلد لقيادة نخبة فرانكوفونية تتبع النموذج الغربي بعد حقبة الاستعمار. لم يكن مؤسس البلد الحبيب بورقيبة يلتزم بالتعاليم الدينية، فكان يسخر من ارتداء الحجاب مثلاً. وفي شهر رمضان، كان يظهر عمداً على التلفزيون وهو يشرب عصير البرتقال في فترات الصوم. لكن في عهد بورقيبة، لم تكن تونس نظاماً ديمقراطياً بأي شكل. وفي عهد خلفه زين العابدين بن علي، أصبح البلد نظاماً ديكتاتورياً.
النظام اضطهد الإسلاميين
طوال عقود، كان النظام يضطهد الإسلاميين، فكان يحتجز مناصريهم في السجون ويعذبهم بطريقة وحشية، لذا أُجبر الكثيرون على الهرب من البلد، وكان من بينهم زعيم الإسلاميين الغنوشي الذي أقام في لندن طوال 20 عاماً، وعاد إلى وطنه في شهر يناير الماضي. أرادت القوى الحاكمة أن يلعب الإسلام دوراً ثانوياً في المجتمع، وكان الوضع كذلك. قبل وقوع الثورة، نادراً ما كنا نشاهد نساء محجبات في شوارع تونس، وكان عدد النساء العاملات مرتفعاً، أقله في العاصمة. ظاهرياً، كان البلد يتمتع إذن بنفحة غربية، لكن في العمق كان الواقع مختلفاً.
لطالما كان الانقسام الثقافي والاجتماعي في هذا البلد كبيراً وقد اتسع نطاقه في السنوات الأخيرة. من جهة، نجد النخبة التونسية الثرية في العاصمة تونس، وقد تلقّى معظم أعضاء هذه الفئة تعليمهم في فرنسا وكانوا يحاولون تقليد أسلوب الحياة الفرنسية، حتى أنهم يفضلون أحياناً التحدث باللغة الفرنسية بدلاً من اللغة العربية.
من جهة أخرى، نجد السكان المحافظين في معظمهم ضمن الضواحي الفقيرة للعاصمة وفي المناطق التونسية الداخلية. لم تكن نخبة المجتمع هي التي أطلقت الثورة وأسقطت بن علي، بل كانت الثورة من صنع الشبّان المنتمين إلى أفقر مناطق البلد، وذلك بدافعٍ من البطالة واليأس. كانت هذه الجماعة بالذات هي التي حاربت الشرطة طوال أسابيع، وكان معظم الضحايا الذين سقطوا في المواجهات ينتمون إلى هذه الفئة أيضاً.
laquo;النهضةraquo; يدعم الاقتصاد
لقد صوتت شريحة واسعة من الناس لمصلحة حزب النهضة. من وجهة نظرهم، يجسد هذا الحزب كل ما كان الحكام السابقون يفتقرون إليه، إذ يُعتبر أعضاؤه موثوقين ومستقيمين وغير فاسدين، ويركز الحزب أيضاً على القضايا الاجتماعية. كان بن علي يضطهدهم، وكانوا أشبه بالدخلاء على الحياة العامة، ولم يستفيدوا من النظام القديم بأي شكل- لكن لا يمكن قول الأمر نفسه عن معظم السياسيين الآخرين. كذلك، طرح حزب النهضة مشروع تحقيق الازدهار الاقتصادي وفق النموذج التركي في حملته الانتخابية ونجح في إظهار نفسه بصورة الحزب الذي سيحافظ على هوية تونس ldquo;العربية المسلمةrdquo;.
يشكل نجاح حزب النهضة أيضاً ضربة قاسية في وجه النخبة التونسية التي تميل إلى أسلوب الحياة الغربية، وقد حققت الأحزاب العلمانية واليسارية الليبرالية التي تنتمي إلى تلك النخبة نتائج متواضعة، لا بل كارثية، في بعض الحالات. فهي لم تتمكن من التواصل مع سكان الريف البسطاء، بينما حقق حزب النهضة فوزاً ساحقاً ضمن هذه الفئة من الناخبين. استطاع حزب النهضة التواصل مع هؤلاء الناس، لأنه يتمتع بدرجة عالية من التنظيم ونسبة أكبر من التمويل مقارنةً بالأحزاب الأخرى. يتوزع عشرات آلاف الأعضاء المنتمين إلى الحزب في أنحاء البلد وقد خاضوا حملة انتخابية مكثفة، وكانت هذه الحملة الوحيدة التي نجحت في دفع الناخبين إلى المشاركة في الاقتراع. ربما لم يكن مرشحو أحزاب النخبة على علاقة ببن علي، ولكنهم كانوا بنظر الناخبين يمثّلون النظام القديم. على الأقل هكذا كان رأي السياسي أحمد نجيب الشابي، وهو رجل حليق يرتدي البذلات الرسمية ويجيد اللغة الفرنسية. في السنوات الأخيرة، أعلن نفسه خصماً لبن علي، واعتبر نفسه خلال حملته الانتخابية أبرز مرشح منافِس لحزب النهضة إلى جانب حزبه الديمقراطي التقدمي اليساري الليبرالي. لكن على رغم ارتفاع التوقعات الإيجابية، كسب حزبه عدداً قليلاً من المقاعد.
بروز ظاهرة التحجب
لا يشعر الناس بالقلق من فوز الإسلاميين في أوروبا فحسب بل تسلل القلق أيضاً إلى نفوس مناصري السياسة العلمانية وحقوق المرأة في تونس. فقد تأكد الآن أن الإسلام سيكون له وقع مهم في تونس مستقبلاً. منذ الثورة، أصبح مشهد النساء المحجبات أو الرجال الملتحين أكثر شيوعاً. كذلك، نُشرت تقارير عن أئمة طُردوا من المساجد لأنهم اعتُبروا ليبراليين أكثر من اللزوم. قبل أسبوع من الانتخابات، أدى بث فيلم الكرتون ldquo;برسيبوليسrdquo; (Persepolis)، الذي يضم تجسيداً لصورة الله بما يعارض التعاليم الإسلامية التي تمنع تصويره، إلى انطلاق احتجاجات عنيفة.
لكن لطالما كانت تونس واحدة من أبرز الدول المسلمة الليبرالية. صحيح أن معظم شعبها محافظ بطبيعته، ولكنه لا يُعتبر متديناً بطريقة متطرفة بل إنه متأثر بالأفكار الأوروبية. يعتمد هذا البلد أيضاً على السياحة والاستثمارات الخارجية ولن يرغب الإسلاميون حتماً في إبعاد السياح والمستثمرين، كما أنهم لا يستطيعون تحمل كلفة ذلك.
لن يتمكن حزب النهضة من حكم البلد وحده. فلم يصوّت معظم التونسيين لمصلحة الحزب، لذا سيسعى على الأرجح إلى البحث عن شركاء له في صفوف الأحزاب العلمانية من أجل تشكيل حكومة ائتلافية. سبق أن بدأ قادة النهضة بعقد المحادثات الأولية، وذلك قبل إعلان نتائج الانتخابات النهائية. كما عمدوا إلى تسمية الأمين العام حمادي الجبالي كمرشح لرئاسة الحكومة، ولكنهم أعلنوا أنهم لن يسمّوا مرشحاً لرئاسة البلاد.
أشار متحدث باسم حزب النهضة إلى أن الحزب سيسعى إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية. ستكون هذه الخطوة بمنزلة رمز للمصالحة وضمانة للاستقرار الذي تحتاج إليه تونس بشدة الآن. يجب أن يتخذ السياسيون خطوات جذرية لتحفيز الاقتصاد المتدهور ويجب أن يتفقوا على لغة الدستور. لا شك في أن الطريق سيكون شائكاً. تختلف الآراء السياسية في هذا البلد وسيصعب الدمج بين رغبة الإسلاميين في العودة إلى الجذور العربية والإسلامية من جهة والقيم الغربية التي تتبناها الطبقات الليبرالية الفرنكوفونية من جهة أخرى. لكن إجراء الانتخابات من دون مشاكل يُعتبر مؤشراً واعداً على أن تونس قد تكون مستعدة للاستحقاق الديمقراطي الذي تحتاج إليه. وفق الخطة الراهنة، يجب أن يستكمل التجمع الدستوري عمله خلال سنة، إذ ستُعقد انتخابات جديدة بعد انقضاء هذه الفترة. في تلك المرحلة، ستحصل جميع الأحزاب الأخرى على فرصة جديدة.