حياة الحويك عطية

للمرة الثانية تنسحب الولايات المتحدة من ldquo;اليونيسكوrdquo; احتجاجاً، المرة الأولى قبل ثلاثة عقود احتجاجاً على محاولة العالم الثالث أن يقول إنه موجود وله الحق في احترام ذاتيته وثقافته والتعبير عن نفسه وفق رؤاه لنفسه، والمرة الثانية قبل أيام احتجاجاً على محاولة شعب من شعوب العالم الثالث أن يقول إنه موجود ثقافياً وحضارياً .

ففي السبعينات، تحركت ldquo;اليونيسكوrdquo; وعلى رأسها الإفريقي أحمد مختار إمبو، وبعضوية نشطاء وخبراء كثيرين منهم التونسي محمد المصمودي، لإرساء نظام عالمي جديد في الاتصال والإعلام . وكان التحرك يقوم على الاحتجاج على نقطتين أساسيتين: تدفق الأخبار في الاتجاه الواحد NOMIC بالحروف الأربعة الأولى، أي من الشمال إلى الجنوب، وفرض الرؤية الأمريكية أساساً، والغربية عموماً، على رؤية العالم الثالث لمشكلاته وقضاياه، ولقضايا العالم . وقد تكرست هذه المحاولة الاحتجاجية في مؤتمرات عدة بدأت بنيروبي وانتهت إلى إصدار التقرير الشهير المعروف بتقرير ماك بريد الذي منهج المطالب وطالب باحترام خصوصيات الشعوب وثقافاتها وحقها في رؤية قضاياها بعينها، ونقل هذه الرؤية إلى العالم .

واشنطن اعتبرت هذا التحرك حرباً على هيمنتها الكلية ومعها بعض الغرب، على الإعلام وبالتالي على العقل والرؤية في العالم، فأعلنت انسحابها من المنظمة الدولية وقطع مساهمتها المالية عنها . الوضع استمر إلى بداية التسعينات، عندما جاء انهيار جدار برلين إعلاناً لبداية النظام العالمي الجديد، وهيمنة الإمبراطورية الأمريكية وحدها على رأس العالم، وقد ترجم في منطقتنا بحرب الخليج الأولى ضد العراق . عندها أعلنت واشنطن عودتها إلى ldquo;اليونيسكوrdquo; واضعة عدداً من الشروط الصعبة التي اضطرت المنظمة الثقافية الدولية إلى تقديم تنازلات فيها، ومن بينها مشروع ldquo;النوميكrdquo;، وتخلي لجنة الحفاظ على التراث الإنساني عن التحقيق في قضية سرقة آثار أور في العراق . وأذكر رد أحد كبار خبراء ldquo;اليونيسكوrdquo; على سؤالي، عام ،2005 عن نوعية الأبحاث التي تمولها ldquo;اليونيسكوrdquo; في مجال علوم الاتصال الجماهيري، بقوله: نوعان فقط: أبحاث ldquo;الجندرrdquo; وقد خصصت لها سوزان مبارك منحة، والأبحاث المتعلقة بالتقنيات لأن الولايات المتحدة تشترط تمويلها لغاية تسويق منتجات الثورة التقنية الغربية في العالم : المنتجات الآلية، ومنتج المعلومات .

إذاً، أمريكا انسحبت احتجاجاً على التصدي للهيمنة وعادت لتأمين الهيمنة . وبالأمس، قالت ldquo;اليونيسكوrdquo; نعم لوجود فلسطين الثقافية، فعادت الولايات المتحدة إلى ممارسة الحرد ذاته، ليس لأن الاعتراف بفلسطين يشكل تهديداً للهيمنة الأمريكية، بل لأنه، وبدلالة أعمق، يشكل تراجعاً في الهيمنة الأمريكية على العالم، بدليل نتيجة التصويت . كما يشكل مقدمة للتصويت القادم في الأمم المتحدة، علماً أن ما ستصوّت عليه الأمم المتحدة هو أقل بكثير مما صوتت عليه عام 1947 في قرار التقسيم . وربما لأنه يشكل اعترافاً بهوية وطنية لا تتصف لا بعرق ولا بدين .

غير أن المشكلة الحقيقية لا تكمن إلا في كون التقدم الفلسطيني يأتي في وقت يتراجع فيه الوضع العربي كله بشكل عام على صعيد الاهتمام بقضية العرب المركزية الأولى، في حين تتسابق كل من إيران وتركيا إلى اللعب على هذا الوتر الحساس لتحقيق هيمنة إقليمية تملأ الفراغ العربي، أدركت القوتان الإقليميتان اللتان خلت لهما الساحة بعد تحييد مصر وسقوط العراق، أن لا وتر سواه يمكن أن يستجلب شعبية العرب ويعمي أبصارهم عن أية مطامع أخرى، خاصة إذا ما أضيف إليه اللعب على وتر المذهبية السنية - الشيعية، الذي علا صوته بحيث صمَّ الآذان عن أي صوت آخر . وفي غياب السيادة، وثقة المواطن بالاحتماء بالدولة ومؤسساتها المستقرة، لا يكون أمام هذا الأخير إلا الهرب للجوء الأعمى إلى الهويات الصغيرة البديلة: الدين، المذهب، الطائفة، الإثنية، العشائرية، ومن جهة أخرى إلى احتماء كل من هذه بمرجعية أو جهة أجنبية يعتقد أنها حامية ضامنة . أما القول إن هذه الهويات الفرعية قائمة وتندرج ضمن حقوق الإنسان فذلك صحيح عندما تكون كلها ذائبة متجانسة في إطار الدولة لا عندما تصبح بديلاً من هويتها . من هنا يأتي الاعتراف بفلسطين، الهوية الثقافية التعددية العميقة الجذور في الأرض، التي تشكل نقيضاً للهوية الآحادية العنصرية ldquo;الإسرائيليةrdquo;، خطوة ثمينة يجب أن ينتبه إليها العرب كلهم لتكريس نموذج التعددية الحرة التي تعني هوية وطنية ثقافية حضارية واحدة، في مرحلة أشد ما يهددنا فيها هو انتهاج آحادية تحل محل الآحادية السياسية التي قامت الانتفاضات ضدها .