رضوان السيد
تصاعدت شكاوى المثقفين الليبراليين وبعض مَنْ لم يُوفَّقوا في المرحلة الأُولى من الانتخابات المصرية، وسارع عددٌ منهم إلى نعْي الربيع العربي. وحجتهم في ذلك عدة ظواهر، أولها التعامل العنيف من جانب المجلس العسكري مع المتظاهرين والمعتصمين بميدان التحرير، وثانيها ضياع الشباب وأصواتهم وتنظيماتهم تحت وطأة عدم المشاركة، وعدم القدرة على إرغام المجلس العسكري على التنازُل عن السلطة، وثالثها فوز quot;الإخوان المسلمينquot; بنسبةٍ أكبر من المتوقَّع، ورابعها ظهور التيار السلفي (عبر حزب النور) باعتباره قوةً ثانيةً أو ثالثةً في البرلمان القادم، رغم أنّ أحداً من المراقبين لم يحسب لهم حساباً. وهذه المظاهر والظواهر ذات دلالةٍ مهمةٍ بالفعل، إنما لا علاقة لها بالنتيجة التي توصَّل إليها المتشائمون. فالهدفان الرئيسيان لحركة الشباب كانا وما يزالان: السلمية، والتحول الديمقراطي. والأمران لا يزالان متحقِّقَين. إنما ليس هذا فقط، فقد كان من نتائج تحرك الشباب تعيين المجلس الاستشاري، وتقصير ولاية المجلس العسكري بحيث تجري الانتخابات الرئاسية في يونيو القادم. بل وحدث أمرٌ مهمٌّ جداً، وقبل الانتخابات ونتائجها. فقد تبيَّن للقاصي والداني أنّ مجلس الشعب لن يكونَ متوازناً مع كثرة الإسلاميين وضعف الليبراليين، وغياب الشباب. ولذلك لابد أن يحدث التوازُنُ في رأس الدولة، بحيث يظلُّ الرئيس قوياً، ويستطيع لعب دور الحكم والمُوازن بين السُلُطات.
ولنمض إلى المظاهر والظواهر، ولماذا كانت على هذا النحو؟ يكون علينا أن نتذكَّر أنّ جماعة quot;الإخوانquot; كانت الحركة الرئيسية المعارضة منذ الثمانينيات. وكان النظام بعد وفاة عبد الناصر، قد سلك تُجاههم مسلك التودد ثم الإزعاج، وما حال دون تمثيلهم بقدْرٍ محدودٍ إلاّ في الانتخابات الأخيرة التي قام بتزويرها عام 2010. ولذلك فقد بقي تنظيمهم مستقراً وعاملاً، بخلاف الأحزاب الأُخرى التي تضاءلت وتراجعت وصارت هامشاً للنظام، إضافةً للأحزاب التي ظهرت بعد الثورة أو قبلها بقليل مثل حركة كفاية، وحركة 6 أبريل. فـquot;الإخوانquot; كانوا مستعدّين عند سقوط النظام، كما لم يكن المجلس العسكري بعيداً عنهم وقد مال إلى التقاسُم معهم عندما كان يفكّر في البقاء بالسلطة إلى زمنٍ أطول. والمعروف أنّ الثُنائية التي كانت موجودة، كان أحد طرفيها وهمياً أو صار كذلك، أي استبداد يقابله تطرف. وقد ضعُف التطرف بالقمع، كما ضعُف أكثر باستخدام العنف. وما استخدم quot;الإخوانquot; العنف رغم ما تعرضوا له، فبقيت لهم عدة ميزات: كونهم المعارضة الرئيسية، وأنّ تنظيمهم قائم، وأنّ معهم عواطف شعبية عالية بسبب احتجاجيتهم المضبوطة. ويضاف لذلك الشبكات الاجتماعية الكثيفة التي أقاموها، والعلاقات الإقليمية والدولية التي حرِصوا عليها. وهكذا فهؤلاء أُناسٌ كانوا يُعِدُّون أنفُسهم ليكونوا عنصراً مؤثِّراً في المشهد، إذا فشل التمديد لمبارك وإذا فشل التوريث لنجله جمال. ويضاف لذلك أيضاً أنّ الأحزاب التقليدية بقيت على ضعفها وهلهلتها بعد الثورة، وأنّ الشباب ما اهتموا كثيراً بتنظيم أنفسهم وعندما فعلوا انقسموا إلى حركاتٍ صغيرة متناحرة.
إنّ هذا كلَّه مقبولٌ ومعقولٌ، والمفاجئ فقط حصولهم على نِسَبٍ أعلى من المتوقَّع، وبعيدٌ أن يتراجعوا فيما بعد لأنّ المرحلة الأُولى ستؤثر في المرحلتين اللاحقتين. إنما الباقي هو السؤال: من أين أتى السلفيون؟ صحيح أنه كانت لهم تنظيمات دينية، لكنها كانت منقسمة وغير مركزية. وكان أكثر من ثلثهم لا يقولون بالانتخابات. ثم إنّ تنظيماتهم ما كانت سياسية بل عقدية ودعوية. وهم لا يثيرون الاستحسان ولا الدعم من خارجهم، لسوء منظرهم ومخبرهم! وقد كان المنتظر أن يحصلوا ليس على أكثر من 5 في المئة، فلماذا حصلوا على حوالي العشرين بالمائة من الأصوات؟! إنها أُحْجيةٌ لا يمكن تفسيرها. إنما الذي لا شكَّ فيه، أنهم كانوا يملكون الإمكانيات، وقد تحركوا بكفاءةٍ، وتقاسموا هم وquot;الإخوانquot; القرى والجهات الريفية. أمّا في المدن فالليبراليون الجدد أقوياء، ويضاف لذلك ضغط حركات الشباب. وهذه كلُّها أمورٌ نسبيةٌ، إنما تبقى الظاهرة السلفية المتعملقة بدون تعليلٍ معقول.
والفكر السلفي قديمٌ بمصر ويعود لعشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين. لكنه كان منتشراً في أوساطٍ مدينيةٍ ولا وجود له خارج القاهرة، وكانت له جمعيتان معروفتان، وهو مهتمٌّ بالمسائل الفقهية أكثر من المسائل العقدية. وأذكر أنّ أُستاذنا لعلم الكلام بكلية أصول الدين بالأزهر كان سلفياً، لكنه كان شديد المسالمة ويبدو quot;متحرراًquot; أكثر من quot;الإخوانquot;. وكنا لا نكاد نعرف من سلفيته غير حملته على الصوفية، وحفظه لكلام ابن تيمية. وقد انتشرت السلفية بمصر مع العائدين إليها بعد أن عملوا بالسعودية من منطقة الدلتا. واشتهرت الظاهرة في الإسكندرية، وصاروا يظهرون في الشارع خلال التسعينيات. وصارت لهم ثلاثة تنظيمات، وكان تنظيمان منها لا يقولان بالانتخابات! وعندما كانت تحدث اضطراباتٌ من حول الكنائس أو بعض المزارات الصوفية، كان الناس يتهمونهم. لكنّ السلطات ما كانت منزعجةً منهم، فقد كانوا يقولون بطاعة ولي الأمر، ويلعنون quot;الإخوانquot;، ولا يهتمون بالسياسة. وحتى بعد قيام الثورة ما أظهروا اهتماماً سياسياً، وخرج بعض شيوخهم داعياً لتأييد مبارك. ودار بين تنظيماتهم المختلفة نقاشٌ علنيٌّ عن جواز المشاركة في الانتخابات، وعن إمكانيات التعاوُن مع quot;الإخوانquot;. وعندما قرروا المشاركة أخيراً، كان التعليل أنّ هناك مؤامرةً عليهم، وأنّ المشاركة في النظام السياسي تحميهم. بينما قال آخرون إنهم يُعدُّون بالملايين، وإنهم يستطيعون من هذا الطريق أسلمة النظام السياسي! والظاهر الآن أنهم حصلوا على نسبة 20 في المئة أو أكثر من أصوات المحافظات التسع التي جرت فيها الانتخابات. وهذه نسبةٌ هائلةٌ إذا استتبّتْ في الجولتين القادمتين فإنها تكون سباقةً ليس في مصر بل في العالم الإسلامي كله.
لقد عرفت مصر مثل جمهورياتٍ عربيةٍ أُخرى استبداداً وفساداً على مدى عقود. وظهر النقاب بوضوحٍ في المدن والأرياف، وما كان ذلك من عادة quot;الإخوانquot;، ولا طريقة المسلمين التقليديين. وقد شبَّه البعضُ ذلك بما حصل في الجزائر خلال الثمانينيات والتسعينيات. لكنه في الجزائر أحدث استقطاباً داخل المجتمع وداخل الإسلاميين. على أنّ مصر ما انفردت بتلك الظاهرة خارج الجزيرة العربية، بل عُرفت الظاهرة ذاتها باليمن والعراق والأردن والمغرب وتونس. وكان النقاب عَلَماً عليها، وليس الإفصاح السياسي أو الاجتماعي. وما عُرف من تسيُّسهم بالأردنّ أيضاً غير كراهيتهم لـquot;الإخوانquot;. لكنهم بدوا جزءاً من انتشارٍ واسعٍ في أوساط المتدينين من أهل السنة من الشباب.
وإذا كانت السلفية الانتخابية (وليس السياسية) قد صارت ظاهرة. فالظاهر أيضاً الصعود النسبي للكتلة الليبرالية التي يتزعمها ساويرس وأبو الغار. وقد برز على السطح كذلك حزب quot;الوسطquot; الذي انشقّ عن quot;الإخوانquot;، وأُصيب حزب quot;الوفدquot; التقليدي والجديد إصاباتٍ شديدة، رغم الآمال التي وضعها على استقطاب quot;الفلولquot;. وهذه كلُّها ظواهر لافتة، وإن لم تكن تُضاهي في فجائيتها صعود quot;الإخوانquot; وظهور السلفيين.
ما فشلت الثورة ولا انهزم شبابها. ولا خطر على السلمية أو التحول الديمقراطي. والراجح أنّ الظاهرة مؤقتة بعد طول انكتام. إنما الخطِر أنّ مجلس الشعب ومجلس الشورى سوف يختاران مائةً لكتابة الدستور، وهنا مربط الفرس، إذ سنسمع أغرب الكلام في طرائق كتابته بحيث تصبح مصر دولةً إسلامية، وكأنما هي الآن غير مسلمة أو إسلامية، وعشْ رجباً تَرَ عجباً!
التعليقات