خيرالله خيرالله


كان طبيعيا أن تملأ الأحزاب الدينية الفراغ الذي تعاني منه مصر الداخل من جراء ممارسات استمرّت منذ ستة عقود. ستة عقود من الحكم العسكري والأمني المبطن أحيانا، والمبالغ في وقاحته في أحيان أخرى. ستة عقود من الهرب من الاستحقاقات الحقيقية، بما في ذلك العمل على وقف النمو السكاني المتوحش، ورفع مستوى التعليم، وقيام طبقة متوسطة الابتعاد عن الاقتصاد الموجه الذي تحوّل في السنوات الاخيرة إلى اقتصاد متوحّش.
لم يعد مهمّا هل يحصل laquo;الإخوان المسلمونraquo; على الأكثرية المطلقة في مجلس الشعب المصري أم لا؟ المهمّ أن مصر تغيّرت. تغيّرت مصر إلى درجة أن السلفيين صاروا قوة سياسية لا يمكن تجاهلها في مجلس الشعب. صاروا القوّة الثانية بعد laquo;الإخوانraquo;. هل في استطاعة مصر إعادة لملمة نفسها، هل مصر متجهة إلى أن تكون دولة طبيعية قادرة على حلّ مشاكلها أم تقع في ديكتاتورية جديدة تعيد إنتاج النظام السابق ولكن تحت غطاء مختلف ذي طابع ديني؟
تكمن مشكلة مصر في أنها كانت الدولة العربية التي تؤثر في محيطها. صارت هي التي تتأثّر بهذا المحيط. صارت مصر أسيرة التراجع الذي شهدته المنطقة على الصعيد الحضاري في السنوات الستين الأخيرة منذ بدأت الانقلابات العسكرية تتحكّم بمصائر معظم الشعوب والمجتمعات العربية فارضة عليها نمطا معيّنا، أبرز ما فيه اجتياح القرية للمدينة، وحلول الأنظمة المستبدة التي محورها شخص معيّن مكان الأنظمة التي كانت قادرة على التعاطي مع التنوع، حتى لو كانت أنظمة ملكية.
انتشر الاستبداد والتخلف باسم الوحدة والحرية والاشتراكية. انفجرت مصر من داخل أولا. حصل ذلك قبلا في العراق عندما هرب صدّام حسين من الداخل إلى الخارج منذ اليوم الأول لتسلمه السلطة، كلّ السلطة، في العام 1979. هرب إلى الحرب مع إيران في 1980 من دون أن يفكّر لحظة في النتائج التي يمكن أن تترتب على مثل هذه الحرب. ولم تمض سنتان على انتهاء الحرب حتى أقدم على مغامرته المجنونة في الكويت. انها المغامرة التي أودت به نهائيا في العام 2003 عندما سقط نظامه العائلي- laquo;البعثيraquo; سقوط بيت من ورق بمجرد أن دخل الأميركيون الأراضي العراقية.
حصل ذلك في سورية وليبيا أيضا. انفجر البلدان من داخل أولا بسبب سنوات طويلة من القهر والقمع وعملية تفريغ منظمة للمجتمع من القوى الحية فيه. الخوف على ليبيا كبير بسبب التركة الثقيلة التي اسمها جماهيرية معمّر القذافي. ولكن ما يزال هناك امل في أن ما بقي من قوى حية في المجتمع، المقاوم للتخلف، سيكون قادرا على استعادة المبادرة في مرحلة ما بعد سقوط النظام العائلي- laquo;البعثيraquo; غدا أو بعد غد أو في خلال سنة في أبعد تقدير...
تكمن أهمّية الانتخابات المصرية في أنه يمكن النظر إليها وإلى نتائجها من زوايا عدة. كانت الانتخابات في حدّ ذاتها حدثا لعلّ ابرز ما فيه ان نسبة الاقبال على صناديق الاقتراع تجاوزت اثنين وستين في المئة. أكثر من ثمانية ملايين ناخب توجهوا إلى صناديق الاقتراع. كانت النسبة مرتفعة في صفوف الأقباط والنساء. وهذا يعني ان المصريين من كل الفئات يريدون المشاركة في الحياة السياسية. صحيح أن الأحزاب الدينية ستكون القوة الفاعلة في مجلس الشعب، لكنّ الصحيح أيضا ان القوى الليبيرالية التي تدعو إلى تطوير المجتمع والحياة الاجتماعية والسياسية ستكون موجودة. الأقباط سيكونون موجودين أيضا، كذلك النساء اللواتي يرفضن أن تكون حقوقهن مهدورة. سيكون هناك رفض لأيّ محاولة تستهدف فرض ديكتاتورية جديدة باسم الدين بديلا من الديموقراطية التي فرضتها المؤسسة العسكرية في العام 1952.
تغيّرت مصر. خرجت من نظام الحزب الواحد المستند إلى المؤسسة العسكرية- الأمنية التي حكمت وتحكّمت بالمواطن منذ العام 1952. السؤال إلى اي مدى ستذهب مصر في التغيير؟ هل تتكرر تجارب الماضي ويصطدم laquo;الإخوانraquo; بالعسكر كما حصل في عهد جمال عبدالناصر، ثم في عهد أنور السادات، وأخيرا في عهد حسني مبارك الذي استمر ثلاثين عاما؟
الواضح أن المؤسسة العسكرية تريد المحافظة على مكانتها وعلى امتيازات معيّنة بما في ذلك الموازنة الخاصة بها مع البنود السرية التي تتضمنها. لكنها تبدو قابلة بتقليص نفوذها والسماح بحياة سياسية نشطة. هل يحترم laquo;الاخوانraquo; اللعبة وفق شروطها الجديدة؟
في حال احترموا شروط اللعبة التي سمحت لهم بالتخلص من حسني مبارك بالاتفاق مع المؤسسة العسكرية، سيكون هناك تعايش بين الجانبين لفترة معقولة تمتد لسنة أو سنتين وربّما أكثر. ستتيح مثل هذه الفترة للجميع التفكير في المستقبل وفي وضع الأسس لنظام جديد يأخذ في الاعتبار المشاكل المعقدة التي تعاني منها أكبر دولة عربية.
الواضح أيضا أن صراعا من نوع آخر سيدور في المستقبل القريب بين الإسلاميين والليبيراليين. بين من سيسعى إلى تغيير طبيعة المجتمع المصري بطريقة لا عودة عنها وبين من يرون أن ثورة 25 يناير فرصة للتخلص من نظام عمره ستة عقود لم يستطع تطوير الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصاد. عاش عبدالناصر على الإيجابيات التي تركها العهد الملكي. وعاش السادات على القليل القليل من ايجابيات عبدالناصر، فاضطر إلى الذهاب إلى القدس المحتلة لانقاذ نظامه. وعاش حسني مبارك على حساب ما تركه له انور السادات الذي استعاد الأرض والنفط والغاز وصنع نصف سلام مع إسرائيل.
هل تتصالح مصر مع نفسها أولا وتستعيد سلامها الداخلي، أم أن الانتخابات ستفتح الأبواب على مصراعيها أمام نوع جديد من الصراعات كانت المؤسسة العسكرية قادرة على ضبطها بطريقة مصطنعة؟ انها الطريقة التي لم تؤد سوى إلى الانفجار الشعبي الذي كانت الانتخابات الأخيرة ثمرة من ثماره...
كان الانفجار طبيعيا. ولكن هل مصر ما تزال بلدا طبيعيا قادرا على إعادة لملمة نفسه؟