مَن ينجح: الجامعة أم موسكو أم بغداد - طهران؟

جورج سمعان
الحياة اللندنية
سواء وافقت دمشق على توقيع laquo;وثيقة المراقبينraquo; في الساعات المقبلة أو امتنعت، نجحت المبادرة العراقية أو أخفقت، حقق المشروع الروسي اختراقاً أو فشل... تبقى الطريق أمام التغيير في سورية طويلة، ما دام كل من الأطراف المعنيين يدرك عمق المأزق الذي يواجهه، فميزان القوى الداخلي لم ترجَّح فيه كفة على أخرى حتى الآن، ومثله ميزان القوى بين اللاعبين الإقليميين والدوليين، وطريق المفاوضات تبدو طويلة، فقد مددت الجامعة العربية مهلها لنظام الرئيس بشار الأسد، وتترجح مواقف تركيا وتتبدل كل يوم، ومثلها مواقف روسيا المحرَجة، وإيران المرتبكة.
في الأيام الأخيرة، نشطت بوضوح المحاور الثلاثة التي تنشد laquo;تسويةraquo; الأزمة، في ما يشبه المحاولة الأخيرة لممارسة النفوذ على دمشق والسعي إلى حماية المصالح في آن، علماً أن هذا النشاط ترافَقَ مع أحداث لها دلالاتها في الخريطة السياسية للإقليم، لعل أبرزها خروج القوات الأميركية من العراق، و laquo;الربيعraquo; الذي بدأ يطرق أبواب موسكو وما يحمل من تحديات للثنائي بوتين-ميدفيديف، وكذلك دخول روسيا منظمة التجارة الدولية بعد عقدين من المفاوضات الشاقة. لعلها دفعة مقدمة على الحساب، أو هدية ليست مجانية في خضم تبادل الاتهامات بين موسكو وكل من واشنطن وباريس، على خلفية ما يجري من أحداث في سورية.
رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي حمل بالتأكيد رسائل من طهران إلى واشنطن، فالرسائل المتبادلة بين الطرفين لم تتوقف منذ أيام الرئيس جورج بوش الابن، حين حمل الرئيس جلال طالباني رسائل مشابهة. كانت توصيات تقرير بايكر-هاملتون نوعاً من المقاربة حيال طهران، لكن الظروف لم تكن نضجت بعد، لا أميركياً ولا إيرانياً، ولا عربياً على وجه الخصوص، ذلك أن النظام العربي وقتها، ولا سيما دول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، لم يكن مستعداً لصفقة بين أميركا وإيران تقلل من موقع مجلس التعاون ودوره في رسم سياسات المنطقة. المجلس لا يزال إلى اليوم يتحفظ عن إحياء صيغة التفاهم الثلاثية الأميركية-الإيرانية-العربية التي سادت أيام الشاه، والتي تمنح دوراً راجحاً للجمهورية الإسلامية في المنطقة، ومن هنا ينبع الموقف الخليجي المستمر من حكومتي المالكي في بغداد، الحالية والتي سبقت. ومن الجدير بالذكر أن ثمة طرفاً مستجداً في المعادلة يجب أخذه في الاعتبار، هو تركيا، التي صارت جزءاً من أي ترتيبات تتناول الشرق الأوسط برمته ونظامه الأمني والسياسي.
بدت واضحةً مباركة الرئيس باراك أوباما التحرك العراقي الحالي حيال دمشق، وكأني به يبعث رسالة إلى طهران، المعنية هي الأخرى استراتيجياً بمستقبل الوضع في سورية، لأنها لا تريد أن تخسر هذا الجسر الإستراتيجي إلى لبنان وحدود فلسطين، وكأن لا مانع أميركياً أيضاً من تكليف إيران، عبر بغداد، بعد مبادرة الجامعة العربية وتركيا، بإيجاد مخرج مقبول للأزمة، خصوصاً إذا كان التكليف يصب في مجرى المبادرة العربية، التي يرغب المجتمع الدولي في تحويلها شبيهة بالمبادرة الخليجية التي رسمت خارطة طريق لإنهاء الأزمة اليمنية، أي أنها ترسم تسوية تراعي -مرحلياً- رأس النظام وحزبه و laquo;حاشيتهraquo;، وتوزع مواقع السلطة بين الأطراف المتناحرين، تمهيداً لإصلاحات يساهم في إرسائها هؤلاء الأطراف جميعاً.
بالطبع تختلف التركيبة المجتمعية السورية عن تلك التي في اليمن وغيرها من أراضي laquo;الربيع العربيraquo;، فالخريطة الديموغرافية في سورية تقترب إلى حد كبير من خريطة لبنان والعراق، ولذلك قد ينتهي المطاف إلى laquo;طائفٍraquo; ما يوزِّع على الطوائف والإتنيات حصصها، وبالتالي... نصبح أمام دولة ثالثة تحكمها المحاصصة، التي لا ترسي تعايشاً بقدر ما ترسي نوعاً من إدارة مستدامة للأزمات المرشحة كل حين لأن تتحول حروباً مفتوحة!
لا حاجة في هذا المجال إلى التذكير بأن المبادرة العراقية تحظى حتماً بتأييد إيران إذا كانت الغاية منها إطلاق حوار بين نظام بشار الأسد ومعارضيه... وإنْ على قاعدة ما رسمته المبادرة العربية، ولكن إذا كان بين النتائج أن تضمن إيران ألاّ تخسر هذا البلد وتخسر معه لبنان، وتضمن -وهذا هو الأهم- laquo;حضورَهاraquo; الآمن في بغداد بعد رحيل الأميركيين، فإنها تدرك أن أخطر ما ستواجهه ليس عبء إدارة الأزمات التي ستنشأ في العراق بعد هذا الرحيل، بل مستقبل الوضع في سورية، سواء سقط النظام أو استمرت الفوضى أو اندلعت حرب أهلية واسعة.
لذلك، قد لا يكون لقاء وزير الأمن والاستخبارات الإيرانية حيدر مصلحي وليَّ العهد نائب رئيس الوزراء وزير الداخلية الأمير نايف بن عبد العزيز، مجردَ لقاء بروتوكولي، بل لعله مقدمة لإدراك طهران حراجة الوضع الذي تواجه، سواء في موقفها من الأزمة السورية أو في الآثار المترتبة على كشف واشنطن خطة إيرانية لاغتيال السفير السعودي لدى العاصمة الأميركية والتداعيات التي تلت ذلك، أو في المواجهة المستمرة على ملفها النووي، لأنها تعي تماماً أنها لا يمكن أن توفر تضامناً إسلامياً مع مواقفها ما لم تحظَ بمثل هذا التضامن من المملكة العربية السعودية أولاً، وتعي أيضاً استحالة القفز فوق نفوذ الرياض في العراق وغير العراق.
هذا التحرك العراقي-الإيراني للإمساك بمفتاح الحل في سورية، ربما كان أحد أسباب تبدل موقف روسيا، التي لا تشعر بأن laquo;الربيعraquo; بات يدق أبوابها فحسب، بل بأن النظام في دمشق لا يمكن أن يصمد حتى النهاية في مواجهة كل هذه الضغوط. وأياً كان مشروع القرار الروسي في مجلس الأمن، فإنه بالتأكيد سيزيد في عزلة سورية، رغم أن بعض القوى عَدَّه فارغاً من أي مضمون لأنه لا يدعو إلى فرض عقوبات... مشروع القرار هذا يعكس خشية موسكو من تراخي قبضة الرئيس الأسد واستحالة انتصاره على إرادة الناس أولاً، ومن احتمال فتح المبادرة العربية -التي تلقى دعماً إسلامياً ودولياً واسعاً- الطريقَ إلى حل إقليمي-دولي يعرض مصالحها الحيوية للخطر ثانياً، كما كانت حالها في الأزمة الليبية... في حين تتعزز مصالح أميركا وأوروبا، وقبلهما تركيا وبعض العرب. وستحدد الأيام المقبلة هل الموقف الجديد لروسيا هو المحاولة الأخيرة لممارسة نفوذها في هذا البلد، أم أنه مجرد سعي إلى انتزاع مفتاح الحل من الآخرين، أم رفع الإحراج الذي تواجهه من منظمات حقوق الإنسان.
في هذا السباق، أو الصراع المحموم على سورية، لا تزال تركيا حتى الآن الأكثر قدرة على التأثير وشق طريق الحل، ولا جدال في أن أي عمل عسكري مباشر قد تلجأ إليه يمكن أن ينهي الأزمة سريعاً، لكن دون هذه المغامرة حسابات إيرانية و... عربية أيضاً، وحتى الملاذات الآمنة التي تبدي أنقرة استعداداً لها شرط توافر الغطاء العربي، ليست طريقها آمنة.
في خضم هذا الصراع على سورية، هناك من يرسم احتمالات مؤلمة لنهاية الأزمة السورية، أسوأها وأخطرها أن تذهب البلاد نحو تقسيم خطير يفرضه ميزان قوى يكاد يكون متكافئاً. ومثل هذا التقسيم سيهدد دولاً أخرى في المنطقة. أما الأقل خطراً والأكثر إيلاماً في آن، فأن تنزلق سورية إلى حرب أهلية طويلة لا تبقي ولا تذر، وما تشهده بعض المدن في الوسط والشمال الغربي ينذر بذلك. مثل هذه الحرب ستـــطاول شرارتها دول الجوار، الأمر الذي يعني انشغال المنطقة من العراق إلى لبنان مروراً بالأردن بقلاقل وأعمال عنف وتوترات، فضلاً عن أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية. أما إذا نجح نظام بشار الأسد في وجه كل الضغوط، مستنداً إلى تماسك مؤسساته العسكرية والأمنية وأجهزته، فإن سورية قد تتحول إلى laquo;كوريا شمالية ثانيةraquo;، ومثل هذا الوضع أيضاً سيلحق ضرراً كبيراً بلبنان قبل غيره من دول الجوار، لأنه سيتحول الباب الوحيد في الحصار المضروب على دمشق، أياً كان موقف العراق، وحتى الأردن، وسيكون تحت المجهر الدولي في الشاردة والواردة... وربما شمله الحصار.
لتحذر دمشق, فالمالكي على خطى أردوغان
نقولا ناصر
العرب اليوم الاردنية
(موقف نوري المالكي الحالي يمثل قنبلة عراقية موقوتة يمكن أن تنفجر في وجه دمشق في أية لحظة, كما انفجرت قنبلة اردوغان)
كل الأدلة والدلائل والمؤشرات تستبعد تماما أن ينقلب نوري المالكي, رئيس وزراء الحكومة العراقية المنبثقة عن عملية سياسية رسمها الاحتلال الامريكي للعراق بعد الغزو, وكتب دستورها وقوانينها, على هذه العملية بين ليلة وضحاها, ليتحول مع الأركان الطائفية مزدوجة الولاءات الامريكية - الايرانية لهذه العملية الى قوة حريصة على بقاء سورية حصنا لmacr;quot;المقاومة والممانعةquot; في مواجهة الولايات المتحدة وحليفها الاقليمي الاستراتيجي الاسرائيلي وقد عاد لتوه من واشنطن غداة الاتفاق على تفاصيل ربط بغداد بقيود quot;شراكة استراتيجيةquot; طويلة المدى معها تكون بديلا لتواجد قوات الاحتلال الامريكي النظامية بعد انسحابها من العراق آخر هذا العام.
فتجربة سورية المرة مع رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان ما زالت تتفاعل لتؤكد بأن الشركاء الصغار للولايات المتحدة في علاقات استراتيجية معها سوف يظلوا عاجزين عن إقامة علاقات تكتيكية تقتضيها مصالح بلادهم الوطنية إذا تعارضت هذه المصالح مع مصالح الشريك الامريكي الأكبر. لذلك لن يستطيع رئيس وزراء حملته دبابات الغزو الامريكي الى السلطة في بلد لم تغادره قوات الاحتلال الأجنبي نهائيا بعد, مثل المالكي, تحقيق ما عجز عن تحقيقه رئيس وزراء منتخب في دولة مستقلة, مثل أردوغان.
وبالتالي لن يكون مصير المراهنة السورية على مراكمة علاقات تكتيكية مع عراق يقوده المالكي وأركان العملية السياسية الامريكية التي أوصلتهم إلى السلطة على أمل إحداث تغيير في علاقتهم الاستراتيجية مع الولايات المتحدة أفضل من مصير المراهنة السورية المماثلة على أردوغان وتركيا, ولن يطول الوقت الذي يجد فيه المالكي نفسه أمام اختبار امريكي يخيره بين انفتاحه التكتيكي على دمشق وبين القيود الاستراتيجية التي تربط مصيره وبقاءه السياسي بمدى إذعانه لإملااءات علاقاته الاستراتيجية مع الولايات المتحدة, ومن المؤكد أن المالكي أقل تأهيلا من أردوغان للنجاح في اختبار كهذا فشل فيه نظيره التركي الأفضل تأهيلا منه. لذا فإن موقف نوري المالكي الحالي يمثل قنبلة عراقية موقوتة يمكن أن تنفجر في وجه دمشق في أية لحظة, كما انفجرت قنبلة اردوغان.
وإذا كانت استحقاقات الواقع التي تفرض على الدبلوماسية السورية تجاهل علاقات المالكي الاستراتيجية مع الولايات المتحدة وإغماض الأعين عن التناقض بين هذه العلاقات وبين أي موقف للمالكي يمكن أن يحوله حقا إلى ظهير quot;مضمونquot; لسورية, لا ينقلب عليها كما انقلب أردوغان, في المواجهة الامريكية - السورية المحتدمة حاليا هي استحقاقات مفهومة وواضحة, فإن أسباب المالكي لتظاهر العراق بالحرص على عدم quot;إسقاط النظامquot; في سورية ليست مفهومة وواضحة بالقدر الكافي ذاته, لكن ليس من الصعب استقراؤها.
وأول هذه الأسباب التي تتبادر إلى الذهن يكشفها تصريح المالكي وهو في طريق عودته من زيارته الأخيرة إلى واشنطن عن عزمه إرسال وفد إلى دمشق للتوسط بين الحكم وبين المعارضة, بينما كل الأنظار العراقية والعربية مركزة على معرفة مضمون ما يصفه الرئيس الامريكي باراك أوباما وإدارته بmacr;quot;الشراكة الاستراتيجيةquot; الامريكية - العراقية طويلة المدى التي استدعي المالكي إلى واشنطن للاتفاق على تفاصيلها عشية استكمال انسحاب قوات الاحتلال الامريكي من العراق بنهاية الشهر الجاري, فالمالكي حريص على التعتيم على تفاصيل هذه الشراكة بقدر حرصه على ترسيخها.
إن عدم اعتراض الإدارة الامريكية على الاختلاف بينها وبين حكومة المالكي في الموقف من سورية يشي بحرص الجانبين على ترويج صورة مضللة بان قوات الاحتلال الامريكي تترك العراق وهو quot;مستقل وحر وذو سيادةquot; كما قال وزير الدفاع الامريكي ليون بانيتا وهو يرعى احتفال رفع العلم العراقي وإنزال العلم الامريكي في بغداد يوم الخميس الماضي.
وثاني هذه الأسباب يتلخص في ما وصفه المحلل السياسي العراقي وليد الزبيدي في مقال له مؤخرا بmacr;quot;هيمنة إيران على جميع المفاصل السياسية والأمنية والاقتصاديةquot; في العراق, مما يفسر موقف المالكي وحكومته من الأزمة السورية الراهنة باعتباره قرارا إيرانيا في المقام الأول أكثر مما هو قرار أملته عوامل الجغرافيا السياسية والعلاقات الاقتصادية الوثيقة بين العراق وبين سورية رغم أهميتها, فمثل هذه العوامل والعلاقات لم تكن رادعا كافيا للحيلولة دون تركيا أردوغان والإذعان لاستحقاقات العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة للانقلاب على علاقاتها السورية. والمالكي حريص على التعتيم على هذه quot;الهيمنة الايرانيةquot; بقدر حرصه على ترسيخها.
وثالث الأسباب يكشفه ما نسبته الصحافة الامريكية إلى المالكي أثناء وعشية زيارته الأخيرة لواشنطن, فهو ما زال يسعى إلى quot;تفكيك وتسليمquot; المجموعات quot;البعثية العراقيةquot; التي تقود المقاومة العراقية والتي تستضيفها سورية, والتي قاد رفض دمشق لتسليمها الى أزمة دبلوماسية بين البلدين عام ,2009 مما لا يترك مجالا للشك في ان المالكي يستغل الأوضاع الصعبة في سورية لابتزازها كي تنهي التسهيلات السورية لهذه المقاومة باعتبارها الخطر الأكبر على استمرارية النظام السياسي المنبثق عن الاحتلال الامريكي في العراق, وقد دلل المالكي على استشعاره لهذا الخطر بحملة الاعتقالات الواسعة للبعثيين العراقييين خلال الأشهر السابقة على استكمال الانسحاب العسكري الامريكي, والتي قالت هيئة علماء المسلمين في العراق إن العنوان quot;البعثيquot; لتلك الاعتقالات لم يستطع إخفاء حقيقة انها طالت كل القوى الوطنية المقاومة للاحتلال الامريكي والهيمنة الايرانية. والمالكي حريص على التعتيم على حملته الشرسة ضد المقاومة العراقية بقدر حرصه على اجتثاثها باسم quot;اجتثاثquot; البعث.
وهذا يقود الى السبب الرابع, وهو التعتيم على واقع ما وصفه الشيخ حارث الضاري, رئيس هيئة علماء المسلمين, بmacr;quot;سلطة استبدادية واستئصالية حاقدة على أبناء الشعب العراقيquot;, تستدعي quot;ثورة ربيع عربيquot; في العراق ضد أسباب مضاعفة للثورة, بالمقارنة مع الأقطار العربية التي يجتاحها حاليا حراك شعبي واسع ضد الاستبداد, لأن أدوات الاستبداد في العراق ليست quot;وطنيةquot; فحسب بل هي مدعومة بتوطين خبرات أجنبية في مصادرة الحريات العامة كشرط مسبق لاستمرار الاحتلال الامريكي والهيمنة الايرانية, والمالكي حريص على التعتيم على أسباب quot;الثورةquot; في العراق بقدر حرصه على اجتثاث الحراك الشعبي العراقي من اجل التحرر والسيادة والحرية والوحدة الوطنية.
وخامس الأسباب أن quot;الوساطةquot; العراقية التي يريدها المالكي في سورية توحي خادعة بعودة دور quot;عربيquot; للعراق تمهيدا لاستضافة بغداد المقررة للقمة العربية بنهاية آذار / مارس المقبل, فالمالكي حريص على استضافة هذه القمة بقدر حرص الولايات المتحدة على انعقادها في العاصمة العراقية لانتزاع اعتراف عربي جماعي بشرعية النظام المنبثق عن الغزو والاحتلال الامريكي للعراق. وفي هذا السياق يلفت النظر أن quot;الوساطةquot; العراقية المقترحة هي وساطة بين جامعة الدول العربية وبين سورية أكثر مما هي وساطة بين الحكم في دمشق وبين المعارضة له, وأنها تتم بmacr; quot;التفويض الكامل من قبل الجامعة العربيةquot; كما قالت صحيفة quot;الصباحquot; العراقية الرسمية, خصوصا وأن المالكي مؤهل فقط للوساطة فقط مع quot;المعارضةquot; السورية التي تطالب بالتدخل العسكري الأجنبي, كونه كان سباقا ورائدا في هذا المضمار, لكنه بالتأكيد لا يملك أي أرضية مشتركة تؤهله للتوسط مع المعارضة الوطنية التي تكرر رفضها المطلق لمثل هذا التدخل وتعتبر المالكي نفسه ونظامه من إفرازات التدخل الأجنبي والاحتلال.
وسادس الأسباب quot;تركيquot;: فقوة الاحتلال الامريكية عشية سحب قواتها النظامية لم تترك مجالا للشك في سعيها إلى موازنة quot;الهيمنةquot; الايرانية التي ترسخت في العراق تحت المظلة الامريكية بدور تركي يتعزز بعد الانسحاب الامريكي العسكري. فليون بانيتا توجه من بغداد مباشرة بعد إنزاله العلم الامريكي إلى انقرة, حيث quot;من المتوقع أن يكون العراق موضوعا رئيسيا على جدول أعمالهquot; كما كتب ممتازر توركون في صحيفة quot;زمانquot; التركية يوم الجمعة الماضي, ليصرح بأن تركيا quot;شريك حاسم للولايات المتحدة وحليف مهم لحلف الناتوquot;. واللافت للنظر أن الناتو قد أعلن في بيان رسمي يوم الاثنين الماضي أنه سينهي مهمة بعثته العسكرية للتدريب في بغداد, وتركيا مشاركة في هذه البعثة, بالتزامن مع اكتمال انسحاب القوات الامريكية في نهاية الشهر الجاري, وإشارة بانيتا إلى أهمية تركيا للحلف تقترح بان يشمل الدور التركي بعد الانسحاب الامريكي وراثة الدور الامريكي ووراثة دور حلف الناتو على حد سواء في العراق. ومثل بانيتا, توجه نائب الرئيس الامريكي جو بايدن من بغداد إلى أنقرة مباشرة بعد زيارته التي لم يعلن عنها مسبقا للعاصمة العراقية أوائل الشهر الجاري. فواشنطن تسعى علنا إلى أن تكون تركيا كاسحة ألغام امريكية في سورية والعراق على حد سواء.
وكان المالكي, في مقابلة مع الوول ستريت جورنال الامريكية سبقت زيارته الأخيرة لواشنطن قد اشتكى من quot;تدخلquot; أنقرة في quot;الشؤون الداخليةquot; للعراق. ومن الواضح أن عاملين مهمين يجعلان المالكي وأركان عمليته السياسية متحفظين بقوة على هذه quot;الدور التركيquot; الذي تريده الولايات المتحدة في العراق بعد سحب قواتها, أولهما quot;الهيمنةquot; الايرانية وثانيهما العامل الكردي, مما يجعل أهم مكونين في quot;العملية السياسيةquot; معارضين للدور التركي المقترح, سواء في سورية أم في العراق, لأسباب إيرانية وعراقية لا علاقة لها بأي انحياز عراقي موهوم لسورية في مواجهة المسعى الامريكي الحثيث لmacr;quot;إسقاط النظامquot; السوري.
في مقاله المشار إليه أعلاه, كتب ممتازر توركون في صحيفة quot;زمانquot; التركية: quot;لقد انسحبت الولايات المتحدة من العراق. من سيملأ الفراغ الذي فشلت الولايات المتحدة في ملئه? طبعا سوف تكون تركيا. سوف تهل حقبة جديدة تملأ فيها تركيا هذا الفراغ في القوة لتحفظ السلام والتوازن في العراق.quot;!
والسبب السابع هو تبجح الاحتلال الامريكي ثم تبجح النظام المنبثق عنه في المنطقة quot;السوداءquot; ببغداد بأن quot;الديمقراطيةquot; التي جاء بها quot;التحريرquot; الامريكي للعراق قد خطط لها لتعم المنطقة كنموذج يحتذى, لا بل إن بعض أركان هذه quot;الديمقراطيةquot; الامريكية في العراق لم يتورع عن الادعاء بفضلها في انفجار quot;الربيع العربيquot;. ومنذ أيام الغزو الامريكي الأولى لم يخف الغزاة أن بغداد في خططهم كانت مجرد محطة أولى تليها دمشق وطهران في الطريق إلى شرق أوسط quot;جديدquot; ينعم بالديموقراطية وحقوق الانسان على quot;الطريقة الامريكيةquot;. لذا من الطبيعي أن يتريث المراقب وهو يستمع إلى المالكي يعرب عن خشيته من بديل تغيير النظام الحالي في سورية, فلا بد أن يكون وراء الأكمة ما وراءها.
لهذه الأسباب وغيرها على دمشق أن تحذر, فالمالكي يسير على خطى أردوغان. وتظل المقاومة العراقية هي الرصيد المضمون الوحيد لسورية وليس النظام الذي يستهدف رأسها ويدعي الوقوف الى جانب سورية وظهره مستند إلى الولايات المتحدة التي تعلن جهارا نهارا مطالبتها برأس دمشق. ويجب أن تكون تجربة استثمارها في المقاومة اللبنانية والفلسطينية هاديا لها في العراق أيضا. فحرب المقاومة في العراق لم تنته بعد, وإن كانت قد طوت صفحة إنجاز فاصلة.
في أوائل كانون الأول الجاري, أعلن مشعان الجبوري ثلاثة أسباب لإغلاق قناة quot;الرأيquot; الفضائية التي كانت تتخذ من دمشق مقرا لها, أولها أن قوات الاحتلال الامريكي سوف تكمل انسحابها من العراق بنهاية الشهر, وثانيها أنه يجب إنهاء المقاومة العراقية نتيجة لذلك, وثالثها quot;التطور الايجابيquot; في العلاقات العراقية السورية. وبغض النظر عما إذا كانت هذه هي الأسباب الحقيقية فعلا, فإن في إيراد هذه الأسباب تضليل كبير, فوجود القوات الامريكية ليس هو المظهر الوحيد للاحتلال الامريكي, وquot;التطور الايجابيquot; في العلاقات العراقية السورية يمكن في اية لحظة ان يتمخض عن انقلاب عراقي لا يقل غدرا عن انقلاب أردوغان على تطور مماثل في العلاقات التركية السورية, وإنهاء المقاومة العراقية مرهون بانهاء كل مظاهر الاحتلال الامريكي وكل ما تمخض عنه وليس بإنهاء مظهره العسكري فقط, والنظام الذي يقوده المالكي الآن وقد يقوده غيره بعده هو أهم ما تمخض عنه.
وما زال هذا النظام يحتفظ بأرصدة ضخمة للاحتلال الامريكي تحرص على استمراره. فالسفارة الامريكية الأضخم في العالم هي حسب وصف الاعلام الامريكي quot;قاعدة عسكريةquot; بكل المقاييس, وكذلك القنصليات الامريكية في شمال العراق وجنوبه. وهذه القاعدة محمية بحوالي سبعة عشر ألف عسكري امريكي, وعشرات الآلاف من quot;المتعاقدين الأمنيينquot; المرتزقة من الامريكيين وغيرهم المجهزين تماما بأسلحة ثقيلة منها مروحيات حربية ومدرعات لتنفيذ مهمات تقوم بها الجيوش النظامية بموجب quot;عقودquot; مبرمة مع وزارتي الدفاع والخارجية الامريكية ضمن استراتيجية quot;خصخصةquot; الحرب.
بعد أن زار المعلق الامريكي تد كوبل العراق مؤخرا في مهمة إعلامية استنتج بأن الولايات المتحدة quot;لا تغادر العراقquot; فعلا, وافترض استمرار وجود quot;بعثة لوكالة المخابرات المركزية (سي ىي ايه) بصحة جيدةquot;, والقيادة المشتركة للعمليات الخاصة quot;جيه اس أو سيquot;, ووكالة التحقيقات الفدرالية quot;اف بي آيquot;, ووكالة مكافحة المخدرات quot;دي إي ايهquot;, الخ. ناهيك طبعا عن الاحتكارت النفطية العالمية, أما الوكالة الامريكية للتعاون الدفاعي الأمني فتوقعت أن يستمر تواجد الخبراء العسكريين والفنيين الأميركان العاملين في quot;الدعم وإدارة البرامج والتدريبquot; لخدمة الأسلحة الامريكية التي طلب العراق شراءها من الولايات المتحدة لفترة quot;تزيد على 15 عاماquot; (يونايتدبرس انترناشونال في 14/12/2011). ومن الواضح أن مشعان الجبوري كان متسرعا عندما قال إنه quot;يجب إنهاء المقاومة العراقيةquot;, فأسباب استمرار المقاومة ما زالت كثيرة.0