راجح الخوري
سقط حسني مبارك. ارتفعت يده عن مصر بعد ثلاثة عقود من حكم تربع على عرشه الذي كان غارقا في خطأين قاتلين:
❒ أولا: تهميش الانسان المصري وامتهان حقوقه في كل شيء تقريبا: الخبز والحرية والديموقراطية وفرص العمل، حرية التعبير عن الرأي، قانون الطوارىء المزمن، التعامي عن الفقراء الذين يعيشون في quot;بيوتquot; الصفيح وحتى في المقابر.
❒ ثانيا: وهو الأهم، تهميش دور مصر ووظيفتها المحورية التي عرفتها على امتداد التاريخ، كمفصل حيوي بين أوروبا وافريقيا، ودورها القيادي في quot;عالمquot; عربي آخذ في التراجع والوهن، ويسرع الخطى الى القرون الغابرة.
منذ زمن بعيد لم تعد quot;مصر أم الدنياquot; صارت من حيث الفعالية والدور quot;مجرد إمارةquot; يتجاوز عدد سكانها 80 مليون نسمة تنعدم فيها الطبقة المتوسطة، فهناك الاثرياء الذين يزدادون ثراء وهناك الفقراء الذين يزدادون فقرا، الى درجة ان العمل في محطات الوقود في لبنان بات من الاحلام عند كثيرين من المصريين.
❒❒❒
كل هذا معروف. تتراجع مصر الى الزاوية الاستراتيجية المعزولة. فينزل الايرانيون من الشمال الشرقي. يرابطون وسط العرب والعروبة وحتى على حدود غزة والعريش (!) ثم ينزل الأتراك بحثا عن دور امبراطوري مفقود. بينما يتمادى العدو الاسرائيلي في صلفه وغيّه. والمصريون، ونحن في منطقة لا يأكل الناس فيها الخبز وحده، بل يأكلون الشعارات النضالية ويشبعون ولو لم يشبعوا!
واذا كانت مصر المستقلة من دورها التاريخي ووظيفتها الاستراتيجية، قد فشلت تماما، في المحافظة على دورها المحوري، فان ذلك يؤكد تماما ان النظام السياسي الذي امتطاه أنور السادات ثم حسني مبارك لم يحسن قراءة التحولات بعقل يفهم quot;الجيواستراتيجياquot; مع ان مصر فيها كفاءات وعقول، لكنها أرسلت الى الصمت او الاستيداع!
وهكذا يتشظى السودان ويحترق الصومال وتسقط بغداد وتقوم quot;حروب أهليةquot; بين الفلسطينيين، ويلتهب لبنان مرة تلو الاخرى، يشتعل اليمن وتخرب الجزائر في وقت من الاوقات وتتهددهم حقوقها في مياه النيل.
وأين مصر؟ إما في السبات، أو في الاستقالة او في التقصير، أو في الشلل المفروض عليها.
كان من الممكن التغاضي لفترة اضافية عند الناس عن كل هذا، ولكن التقصير المتمادي في تلبية طموحات الملايين، وتلك مهمة ليست سهلة على أي نظام سياسي، زاد من الاحتقان. فعلى رغم النمو الاقتصادي الذي حققته مصر في الفترة الاخيرة، زاد عدد الفقراء والمعوزين وازدادت الأمية وظل العمل بـquot;قانون الطوارىءquot; جاثما على صدور الناس.
منذ أعوام تسيطر على المصريين هموم التوريث وغمومه أكثر، كما يسيطر عليه الغضب المكنون، لأن هذا التوريث يسد في مخيلاتهم الأمل بـquot;التغييرquot;. التغيير الذي يمثل دائما في نظر الشعوب نقلة الى ما هو أحسن. الانتخابات الاخيرة زادت من اليأس والنقمة لأنها جاءت على طريقة الاستفتاءات العرب للزعماء يحصدون 99,99 في المئة من التأييد، تماما كما حصد مبارك والحزب الحاكم مقاعد مجلس الشعب أخيرا!
❒❒❒
هكذا انفجر الوضع ونزل عشرات الآلاف الى الشوارع، لكن هذا لا يعني أننا بالضرورة أمام quot;ثورة الياسمين؟quot;. فنحن في مصر ومصر ليست تونس. وحسني مبارك ليس زين العابدين بن علي. لهذا لا يمكن وضع تصور دقيق للتطورات ولمآل الأمور في مصر.
ما حصل منذ 25 الشهر الماضي الى الآن هو احتدام الحركات المطلبية الشبابية المحقة والعادلة بعاملين خطيرين:
❒ أولا: انفجار فوضى السلب والنهب والفرار من السجون وترويع الناس. وسواء كان هذا السيناريو الاسود تلقائيا او مخططا فانه وجه ضربة مؤلمة الى الحركة الشبابية المطلبية.
❒ ثانيا: دخول رهط من الاحزاب والشخصيات على خط محاولة اقتناص الفرصة والاصطياد في المياه الشبابية الهائجة، الى درجة ان رجلا محترما وهو من أبناء النظام بالمناسبة يدعى محمد البرادعي سارع في المجيء الى القاهرة وأدلى بتصريحات متناقضة في أقل من ساعة.
قال أولا ان هناك لجنة عشرية من المتظاهرين تطلب مقابلة قيادة الجيش، ثم قال إنهم كلفوه تشكيل حكومة فسارع هؤلاء الى النفي. بما يعني تاليا أن ليس هناك إطار تمثيلي موحد للمتظاهرين في الشارع.
يريدون رحيل مبارك واسقاط النظام. حسنا ولكن ماذا بعد؟ ما هو البرنامج؟
يبدو ان البرنامج الذي سيمشي في النهاية هو ما تم أو يتم الاتفاق عليه بين مبارك وقيادة الجيش. مبارك جاء من المؤسسة العسكرية وهذه ستنهي عهده طبعاً لكنها لن تحطمه. لأن تحطيمه اليوم يحطمها غدا.
والاجراءات التي quot;أُتيحquot; لمبارك ان يعلنها توازي معنويا منظره جالسا وسط الضباط في غرفة العمليات المركزية. تعيين اللواء عمر سليمان نائبا للرئيس يعني استقالة كاملة لمبارك وليس فقط سقوطاً للتوريث ولم يعد هناك من شيء للتوريث غير quot;نهاية مستورةquot; وهذه نعمة بالمناسبة. حتى سليمان مرفوض من المتظاهرين.
تكليف اللواء أحمد شفيق رئيسا لوزارة تضع حدا للتضخم وتوفر فرص العمل واعادة الثقة بالاقتصاد، هو خروج تدريجي من الرئاسة. كذلك الحديث عن انتخابات جديدة مبكرة. ديبلوماسي فلسطيني عريق قال لي أمس: quot;الوضع في مصر مختلف. مبارك ابن الجيش وهو صخرة قوية تحطيمها يحتاج الى الكثيرquot;.
ماذا يعني هذا؟
يعني ان مبارك كرئيس قد انتهى. لكن المؤسسة العسكرية لن تسمح بتحطيمه بل ستفتح أمامه بوابة الخروج، حتى من دون أن تعلن صراحة:
الأمر لي.
التعليقات