قينان الغامدي

يوم الجمعة الماضي قامت مظاهرات حاشدة في مصر وقد سماها المتظاهرون (جمعة الغضب) وشهدت سقوط قتلى وجرحى في مختلف المحافظات المصرية، وصباح السبت خرجت إحدى أشهر الصحف المصرية بمانشيت رئيسي يقول: (مظاهرات كبرى في بيروت). وهنا المفارقة التي يعلق عليها الكاتب المسرحي المصري علي سالم في مقاله الأسبوعي بصحيفة الشرق الأوسط يوم الأحد الماضي قائلا: (في مكان ما بين مظاهرات الشارع في المدن المصرية وبين عنوان الجريدة الرئيسي الذي يتكلم عن المظاهرات في لبنان تكمن الحقيقة، حقيقة ما يحدث في مصر على جبهة الإعلام، وربما في مجال الثقافة بوجه عام، بل ربما كانت حقيقة ما يحدث كاملة في العنوان نفسه، تحدث المظاهرات في مصر غير أن رئيس التحرير يرى فقط المظاهرات في مكان آخر، في بيروت).
يقول المناطقة: ليس في العقل ما يؤكد أن ما يحدث أولا هو السبب فيما يحدث بعد ذلك، هي ليست علاقة سببية بل علاقة تجاور. ولذلك أتفق مع الأستاذ سالم بأن المظاهرات لم تكن السبب في كتابة ذلك العنوان الفج في الصحيفة الأشهر، بل كان العنوان هو السبب في المظاهرات والدفع إليها بالرغم مما يبدو على السطح من أن المظاهرات حدثت أولا، وسأوضح.
هذه الجريدة تعبر عن وجهة نظر النظام لا عن وجهة نظر الشعب ولا الواقع، ولذلك فإن عنوانها عنوان مرحلة لا عنوان جريدة، وهو يشير إلى الغياب التام عن الحياة، والثبات عند مرحلة تجاوزها كل شيء، كل شيء على الإطلاق، للدرجة التي جعلت الصحيفة تتصور أن إنكار أو تجاهل المظاهرات سيلغيها، وهو تصور كان مجديا قبل نصف قرن أو أقل أو أكثر قليلا، فعندما قامت ثورة يوليو ـ مثلا ـ لم يكن في مصر سوى ثلاث صحف وشاشة تلفزيونية واحدة، ولا سبيل لمعرفة أي شيء إلا من خلالها، أما الآن فأترك وصف واقع الإعلام والاتصال لكم! فأنا أعرف أنكم تدركون أن الصحيفة لم تكن تستخف بعقول المصريين وإنما كانت تستخف بنفسها.
لقد قال ميكافيللي في إحدى وصاياه للأمير: (لن أقول لك ماذا تفعل لتحصل على حب شعبك... بل سأقول لك ماذا يجب ألا تفعل، لا تفعل شيئا يجلب عليك كراهية شعبك واحتقاره)، ولذلك أعجبتني مقولة أطلقها علي سالم نفسه في مقال سابق ناقش فيه أسباب الثورة التونسية فقال: (ليس الفساد هو ما جلب الاحتقار للقيادة السياسية التونسية، بل انعدام الحياء في ممارسته فعندما تمارس حاشية الرئيس كل هذا الفساد بدافع قربها من السلطة وتمارسه بكل هذا الوضوح والبجاحة فلا بد أن الدافع إلى ذلك هو الشعور بالاحتقار للشعب، ليس لأنهم لا يحترمون الشعب فقط، ولكن لأنهم لا يحترمون حتى أنفسهم)، وفي زمن النت والفضاء لم يعد هناك مجال للفساد المستتر أو المعزول، وهو ما لم تدركه الصحيفة المشار إليها أعلاه ولم يدركه الإعلام الرسمي المصري كله، وبطبيعة الحال لم يدركه من يتحدث هذا الإعلام باسمه، الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس، اليوم الجماهير أصبحت تعرف هذا الإثم وهو مازال يحيك، فما بالك وأنت تعلنه دون اعتبار لهم، غضب الناس في مثل هذه الحال ليس مستغربا ولا مستنكرا، بل غيابه هو المستغرب والمستنكر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.