عبد الحميد الأنصاري

يبدو أن العدوى التونسية قد انتقلت إلى غيرها من الدول العربية، والشرارة التي انطلقت منها امتدت إلى دول مثل مصر والجزائر وموريتانيا والأردن واليمن. هناك أكثر من عشر محاولات للانتحار حرقاً استلهاماً لتجربة quot;البوعزيزيquot; الذي أضرم النار في نفسه احتجاجاً على مصادرة عربته التي كان يتكسب منها قوته ورفضاً للإهانة التي لحقت به، وقد حصلت هذه المحاولات في كل من مصر والجزائر وموريتانيا واليمن، مما دفع الأزهر الشريف إلى إصدار فتوى بتحريم الإسلام إزهاق الأرواح لأي سبب كان. كما أن حركة الاحتجاجات الاجتماعية والمظاهرات الغاضبة نشبت كذلك في الجزائر احتجاجاً على ارتفاع الأسعار وتردي الأحوال المعيشية وانعدام فرص التوظيف وانتشار الفساد والمحسوبية. وفي الأردن قامت مظاهرات غاضبة ترفع شعارات منددة بالحكومة، وتطالب برحيلها وتحيي الانتفاضات التونسية والمصرية. وفي موريتانيا نظمت المعارضة مسيرة حاشدة ضد الأوضاع المتردية والفساد المستشري، أما في اليمن فقد قامت مظاهرات لتأييد التحرك الشعبي التونسي والحراك الجنوبي، مما دفع الرئيس اليمني للقول بأنه لن يسمح لـquot;الفوضى الخلاقةquot; بتدمير البلاد مشدداً على أن اليمن ليست تونس. لكن المظاهرات العارمة التي شملت معظم المحافظات المصرية، والتي بدأت منذ 25 يناير المنصرم وبلغت ذروتها فيما سمي quot;جمعة الغضبquot;، هي التجسيد الأكبر للنموذج التونسي. فقد أسقطت الحكومة القائمة وأحدثت بعض التغييرات السياسية غير المتوقعة. ولعلنا نتذكر أن وزير خارجية مصر وصف وقتها مخاوف البعض من امتداد أحداث تونس إلى دول عربية أخرى بأنها quot;كلام فارغquot;، قائلاً إن لكل مجتمع ظروفه، متهماً بعض القنوات الفضائية بالسعي لـquot;إلهاب المجتمعات العربية وتحطيمهاquot;. لكن ها هي الأحداث في مصر تؤكد عدم صحة ودقة تصريح وزير خارجيتها، كما تبرهن على ضعف استقرائه للأحداث الجارية، المظاهرات المصرية الضخمة، وكذلك المظاهرات الجماهيرية في العديد من الدول العربية، لها مطالب مشروعة وعادلة، فقد يئست تلك الجماهير من الوعود والتصريحات التي يطلقها المسؤولون بهدف التسكيت والتهدئة والمراوغة، ثم لا يجد الناس أية ترجمة أو تفعيل لتلك الوعود على أرض الواقع، لا يجد المواطن في تلك المجتمعات التي يستشري فيها الفساد والمحسوبية والإثراء غير المشروع لفئة صغيرة على حساب الجماهير التي تعاني معاناة كبيرة في أن تحيا حياة كريمة. يقول أصحاب نظرية إمكان نقل العدوى التونسية إن quot;ثورة الياسمينquot; أول ثورة عربية تنجح في إسقاط رئيس عربي، وهذا الأمر قد يصبح مصدر إلهام لدول أخرى في المنطقة، لأن أسباب الثورة التونسية متوفرة أيضاً في بلدان أخرى، بما في ذلك البطالة، والقمع الأمني، ومصادرة الديمقراطية. والأنظمة العربية الذكية هي التي تنجح في استخلاص الدرس التونسي وتسارع إلى إقرار التعددية، واحترام الحريات، والتداول السلمي للسلطة، وضمان استقلالية القضاء، ومكافحة الفساد والرشوة والاحتكار ومحاباة الأقارب كي لا تكون السلطة والمال حكراً على فئة قليلة.

إلا أن اللافت للنظر في تتابع مسيرة الأحداث، أن وزيرة الخارجية الأميركية كانت قد وجهت انتقادات لاذعة للحكومات العربية على هامش مشاركتها في منتدى المستقبل بالدوحة يوم الخميس 13-1-2011 وذلك قبل تنحي بن علي ورحيله بـ24 ساعة فقط، أشارت فيها إلى أن الدول العربية تواجه خطر الغرق في عاصفة الاضطرابات والتطرف ما لم تعمد إلى تحرير أنظمتها السياسية وتطوير اقتصادات دولها. وانتقدت الوزيرة بشكل خاص تفشي الرشوة وانتشار الفساد الذي قالت إنه يعمل على تآكل الاقتصادات العربية ويجعل الحياة مستحيلة بالنسبة للأجانب أصحاب الشركات في الدول العربية. ومع تأييدنا للجماهير المصرية في حقها في حرية التعبير عن مطالبها المشروعة في مسيرات سلمية بشكل حضاري، فإن المرء ليتألم من عمليات النهب والسلب والحرق والتخريب وترويع الآمنين والفوضى التي حدثت، وبخاصة خلال فترة الفراغ الأمني. كما أن المرء ليحزن ويترحم على هؤلاء الأبرياء الذين سقطوا قتلى هذه الأحداث.





الحكمة مطلوبة اليوم، وهي تقتضي من المتظاهرين وقوى المعارضة أن تتروى، فقد حققوا مكاسب كثيرة وأسمعوا صوتهم للعالم، والخوف من التوريث انتهى، وسقط حاجز الخوف من النظام والتظاهر، وقد يتعذر تحقيق كافة المطالب في يوم وليلة. دعوا الأمور تأخذ مجراها الطبيعي وانتظروا وراقبوا، لكن الإصرار على التظاهر حتى إسقاط النظام ومحاكمة رموزه كما حصل في تونس أمر قد يتعذر تكراره في مصر وبالصورة التي يتوقعها البعض لاختلاف الأوضاع والثقافة المجتمعية والخبرات والقدرات، المهم تحقيق الهدف بإحداث التغيير وتحقيق الإصلاحات السياسية والاقتصادية ولو من خلال النظام القائم، تغيير النظام لا ينبغي أن يكون هو الهدف النهائي بمقدار التمسك بتحقيق الإصلاحات، وهذا يمكن تحقيقه عبر استمرار الضغط الجماهيري في الداخل وعبر الضغط الخارجي المتمثل في مطالبة المجتمع الدولي لمصر بتلبية مطالب الجماهير واحترام التعددية وضمانة الحريات، لذلك أختلف مع تلك المنابر والفضائيات والأقلام وبعض الرموز السياسية والدينية التي لازالت تحرض الجماهير المصرية وتشحنها وتطالبها بمواصلة التظاهرات والنزول إلى الشوارع للاحتجاج حتى يسقط النظام وتتفكك مؤسساته، على هؤلاء أخذ الدرس العراقي، شحن الجماهير قد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، كما أن هؤلاء الذين استأسدوا اليوم وسنوا سكاكينهم على رئيس النظام، ألم تكن طائفة كبيرة منهم تمجد وتسبح بحمده؟! وهل أمثال هؤلاء مؤتمنون على القيادة؟ ومن يضمن أن لا يتحولوا إذا وصلوا إلى السلطة وتمكنوا إلى فئة أخرى فاسدة ومستبدة؟ تجاربنا العربية المعاصرة على امتداد نصف قرن تثبت بجلاء أن المعارضات العربية إذا وصلت وتحكمت صارت أسوأ من النظام السابق، وكلما جاءت أمة لعنت أختها... الأيام دول والسعيد من اتعظ بغيره.. حفظ الله تعالى المحروسة وأهلها.