خيرالله خيرالله

بعد ثلاثة وعشرين عاماً على وصول الرئيس زين العابدين بن علي إلى السلطة، تبدو تونس أكثر من أي وقت في مرحلة التحول نحو أن تصبح دولة متطورة، وذلك وفق برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي محدد ومتكامل يشارك فيه الرجل والمرأة. لم تكن صدفة أن الإعلان، بصوت عال، عن دخول الرئيس بن علي القاعة الكبيرة المخصصة للاحتفالات في قصر الرئاسة في قرطاج لالقاء خطابه، جاء على ذكر السيدة ليلي بن علي زوجة الرئيس التونسي. فقد دخلا القاعة معاً. يؤكد ذلك الدور الرائد والقديم لتونس على صعيد تكريس أهمية المرأة ومشاركتها في تطوير كل المجالات والمرافق التي تهم المواطن التونسي في كل يوم وكل ساعة.
يستند هذا البرنامج قبل أي شيء آخر على ما بني في أقلّ من ربع قرن، أي منذ السابع من نوفمبر 1987، حين حصل laquo;التحولraquo;، الذي أنقذ البلد ذا التجربة الرائدة في الميادين المختلفة التي كان وراءها الحبيب بورقيبة، رحمه الله. لولا السابع من نوفمبر 1987، لكانت تونس غرقت في الفوضى ولكانت توقفت التجربة الرائدة والمتقدمة لبورقيبة عند الأعوام التي دخل فيها الرجل مرحلة الشيخوخة المتقدمة التي أفقدته السيطرة على البلد وجعلت تونس في مهب العواصف في وقت كانت منطقة شمال أفريقيا بدأت تتعرض لمخاطر كبيرة، خصوصاً في ظل الاهتزاز الذي بدأت تعاني منه الجزائر التي انفجرت فيها الاوضاع ابتداء من اكتوبر 1988.
تكمن أهمية التجربة التونسية في الاستمرارية. لم يكتف التغيير الهادئ الذي حصل في السابع من نوفمبر 1987 بالمحافظة على انجازات مرحلة ما بعد الاستقلال فحسب، بل سعى في الوقت ذاته إلى تطوير التجربة وجعل تونس جزءا لا يتجزأ من العالم المتحضر. لا حاجة إلى الاسترسال في شرح ما تحقق. الأرقام تتكلم وتعطي فكرة عن بلد يمتلك موارد محدودة استطاع ربط نفسه بالعالم من دون أي نوع من العقد عن طريق البرامج التعليمية المتطورة أوّلاً.
جاء الخطاب الاخير لبن علي ليؤكد مرة أخرى الاستمرارية وأن تونس تسير وفق برنامج واضح في غاية المرونة. لعل ما يعبر عن تلك المرونة الكلام الصريح عن ضرورة ادخال إصلاحات على القطاع السياسي. هناك اعتراف بوجود ثغرات وبحدوث أخطاء. هذا نهج جديد لم يتعود عليه العرب لا تتبعه سوى الدول الواثقة من نفسها والتي تعرف ما الذي تريده وإلى أين تريد أن تصل في مرحلة معينة مستفيدة من تجارب الماضي. ولذلك لم يجد بن علي حرجاً في الدعوة إلى laquo;الشروع في انجاز البرنامج العملي الذي وضعناه للفترة بين العامين 2010 و2016 لإصلاح القطاع السياحي وتأمين عودته إلى سالف حيويته وضمان تطوره وديمومتهraquo;.
من المهم أن يكون في بلد عربي رئيس يدخل في التفاصيل ويبحث مع الخبراء والمختصين في تجاوز الأخطاء لدى حصولها. فليس أسهل من السقوط في فخ القول ان كل شيء على ما يرام، وانه ليس ما يدعو إلى إصلاح الأخطاء. في تونس، لم يعد هناك مجالا للمكابرة، في أي مجال من المجالات بما في ذلك حقوق الإنسان أو الإصلاحات السياسية، ما دام المطلوب تحقيق تقدم. والأهم من ذلك، أن الخطاب الرئاسي الأخير ركز على تونس نفسها وعلى كيفية معالجة المشاكل المطروحة وتطوير الانجازات التي تحققت. من هذا المنطلق، كان التركيز على دور المرأة، وعلى الشباب والبطالة، والزراعة، والصيد البحري، والإعلام، والاصلاحات السياسية، والثقافة، ودعم الاقتصاد وتحريره وفتح الأبواب أمام الاستثمارات الأجنبية.
ولكن ما يعطي فكرة أكثر وضوحاً عن بعد النظر التونسي بالنسبة إلى كل ما له علاقة بالمستقبل، تركيز بن علي على التكنولوجيا المتقدمة. فقد أعلن عن laquo;احداث مدينة تونس للتكنولوجيا على مساحة تقدر بـ 300 هكتار في مرحلة أولى، وذلك طبقاً للمقاييس العالمية في المجال البيئي، على أن تحتضن المشاريع ذات المحتوى التكنولوجي الرفيع وآخر تطبيقات المعارف الحديثةraquo;. نعم، هناك رئيس دولة عربية يهتم بشبكة الانترنت وبمضاعفة قوتها مرتين أو ثلاث مرات في المستقبل القريب وبوصولها إلى كل مواطن. يترافق ذلك مع اهتمامه بالبرامج التعليمية وتعليم اللغات الاجنبية والزراعة العادية التقليدية والزراعة البيولوجية والصيد البحري وحقوق المرأة ورعاية الطفل ومياه الشفة واستثمار الثروة المائية على كل الأراضي التونسية والعناية الصحية والبنية التحتية، فضلاً عن الصناعات التحويلية التي باتت أحد مصادر الدخل الرئيسية للبلد.
المهم الآن، أن تعدّ تونس نفسها وأن تتمسك بمتابعة البرنامج الذي نقلها إلى عالم آخر، اكثر تطوراً وحضارة من دون التخلي عن قيمها وهويتها الوطنية في ظرف أقل من ربع قرن. انه البرنامج الذي سمح أيضاً بقيام طبقة متوسطة لديها مصلحة في الوسطية والاعتدال والابتعاد عن أي نوع من انواع المغالاة. هذا لا يعني في أي شكل أن لا حاجة إلى مزيد من الجهود لمنع تسلل المتطرفين إلى المجتمع التونسي، خصوصاً عن طريق استغلال الدين. فهناك بعض الظواهر التي تثير بعض القلق في الشارع التونسي. هناك ظواهر مرتبطة بسلوكيات اجتماعية تشير إلى نشاطات للجماعات الدينية المتطرفة التي ربما تستغل الدين لتحقيق أهداف معينة لا علاقة لها بالتجربة التونسية. وهناك شغب في ملاعب كرة القدم يعكس تململاً في بعض الأوساط الشبابية. من حسن الحظ أن الرئيس التونسي أشار إلى ذلك في خطابه قائلاً: laquo;اننا نحمل الأطراف المعنية بالرياضة مسؤولياتها تجاه ما لاحظناه من تنامي لظاهرة العنف في ملاعبنا، والاعتداء على الممتلكات العمومية والخاصة وممارسة سلوكيات منافية للأخلاق الرياضية وروح التنافس النزيهraquo;.
تونس إلى أين؟ لا شك أن الايجابيات تطغى على أي نوع من السلبيات، خصوصاً أن ما تحقق، إنما تحقق في ظروف إقليمية ودولية صعبة ومعقدة. وهذا يسمح بالقول ان تونس التي تحولت ورشة كبيرة، إنما تحولت في الحقيقة إلى برنامج متكامل يبني دولة مؤسسات راسخة، دولة عصرية ذات مجتمع متصالح مع نفسه أوّلاً ينبذ العنف وكل أشكال التطرف والتزمت...