مأمون فندي
هل تصدقني لو قلت لك إن أعنف المظاهرات المصرية وأكثرها عددا هي التي كانت في ميدان السادات، أو هل سيفهمني أحد لو قلت إن أكبر مظاهرة في مصر حدثت في السادات؟ لو لم تصدق أو تفهم العبارتين السابقتين فبكل تأكيد لا يجب أن تصدق ما قاله المهندس أحمد عز عن إنجازات الحزب الوطني في صحيفة laquo;الأهرامraquo;، كما أنك لن تفهمه. ولكي تفهم ألف باء هذا اللغز، ولكي تفهم ما يحدث في مظاهرات وربما حرائق مصر ومظاهراتها الحالية في القاهرة والسويس والإسكندرية والفيوم وغيرها من المحافظات المصرية، لا بد أن تركب معي مترو الأنفاق في القاهرة لثلاث محطات فقط.
هذه المحطات هي التي سمتها الحكومة رسميا - بلافتات كبيرة تحت الأرض وفوق الأرض - محطة مبارك (المعروفة شعبيا باسم رمسيس) ثم محطة جمال عبد الناصر (محطة الإسعاف) ومحطة السادات (محطة التحرير).. لا يوجد إنسان في مصر وقف أمام شباك تذاكر المترو وطلب تذكرة للسادات أو مبارك أو عبد الناصر. جميع المصريين، دونما استثناء واحد، لا يعترفون بلافتات النيون اللي تحت، واليافطات اللي فوق، هم لا يطلبون من بائع التذاكر تذكرة لمحطة مبارك أو السادات أو عبد الناصر، هم يطلبون تذكرة للتحرير أو رمسيس أو الإسعاف. مصر الرسمية (مبارك، عبد الناصر، السادات في محطات المترو) التي تتحدث عنها الحكومة لا يعترف بها الشعب، الشعب له مصره الأخرى، مصر الواقع المعيش (رمسيس، الإسعاف، والتحرير). أعنف المظاهرات المصرية وأكثرها عددا هي التي كانت في ميدان التحرير، وهو ذاته ميدان السادات، وكل تلفزيونات العالم ومحطاته وحتى التلفزيونات والصحف المصرية لم تذكر السادات، بل قالت إن المظاهرات كانت في ميدان التحرير. الفجوة بين ميدان السادات المكتوب وغير المعترف به، أو ميدان مبارك وهو أيضا غير معترف به، وبين التحرير ورمسيس المعترف بهما، هي الفجوة ذاتها ما بين الحكومة وشباب المتظاهرين، بين أرقام أحمد عز في الأهرام عن النمو وعن نزاهة انتخابات مجلس الشعب، وواقع الشعب الذي يعاني من البطالة ويعرف أن الانتخابات كانت مزورة، وكما يقول المصريون في أحاديثهم عندما يصل الأمر إلى الكذب الفاضح laquo;سلم لي ع المتروraquo;، وحتى المترو لم يسلم من الهزل. عندما كتب البروفسور العظيم تيد روبرت جار كتابه الكلاسيكي الشهير الموسم بـlaquo;لماذا يثور الناس؟raquo;، توصل إلى تشخيص أشبه بالمعادلة الرياضية، مفاده أن الفجوة بين الواقع المعيش وتوقعات الناس، هي الوصفة السحرية للثورة، فكلما زادت الفجوة بين التوقعات أو الطموحات والواقع المعيش، زادت حدة الثورة. والفجوة بين كلام الحزب الوطني بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة، أو حتى في السنوات الخمس الأخيرة، تقع في قلب ما يحدث في مصر.. هي أيضا الفجوة العمرية بين الشباب الذين ملأوا ميدان السادات (آسف ميدان التحرير) الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و30 سنة، حيث ولدوا بعد أن تولى الرئيس مبارك الحكم.. الفجوة بينهم وبين أعمار أعمدة النظام التي تتراوح بين 75 و85 عاما، تقع في قلب المشكلة أيضا. هؤلاء الشباب هم أحفاد الدكتور مفيد شهاب، والدكتور فتحي سرور، وغيرهما، لو قابلوهم في الشارع ينادونهم يا laquo;جدوraquo;، ولا يقصدون بهذا لاعب المنتخب المصري.. هم بالفعل أحفادهم، أما جيل الآباء فهو مفقود في مظاهرات مصر.
هؤلاء الشباب هم من سيحكمون مصر في الأعوام العشرين القادمة، وبهذا نكون قد ألغينا أكثر من جيل من المصريين الذين تتراوح أعمارهم بين 30 عاما و70 عاما. أي ألغينا أربعين عاما من عمر الوطن. هي ذات الفجوة بين مصر الرسمية التي تنقصها الشرعية والاعتراف عند جيل الشباب، ومصر الواقع المعيش الذي لا يسمي ميدان السادات بالسادات، بل يسميه المصريون ميدان التحرير، وربما تكون في الاسم رمزية اختزنتها الذاكرة الجمعية للوطن.
إنها الفجوة بين مفهوم الشاب الكاجوال لـlaquo;التغييرraquo;، ومفهوم الحكومة له. الشاب حتى في ملابسه الكاجوال يغيرها على الملأ في الشارع، يخلع laquo;بلوفرraquo; ويحزمه في وسطه، ويلبس قميصا، التغيير شيء عادي.. أما بالنسبة للحكومة فهناك خجل شديد من التغيير على الملأ، الحكومة محتشمة تغير ملابسها في الحمام، وربما لهذا لا يريدون التغيير الصريح لإرضاء مطالب المتظاهرين، لأن ذلك سيبدو ضعفا سياسيا أو تغييرا على الملأ، وهم يريدون التغيير laquo;في الدار.. في الحمامraquo;.. وهذه الفجوة تقع في قلب الحدث.
قبل الانتخابات البرلمانية الأخيرة في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي كتبت مقالا بعنوان laquo;بطعم ورائحة الاتحاد الاشتراكيraquo;، قلت فيه ما نصه laquo;تدخل مصر الانتخابات البرلمانية القادمة، وربما الرئاسة، بحزب وطني بطعم الاتحاد الاشتراكي، وهذه ملاحظة جوهرية لما يعنيه تحول الحزب الوطني إلى حالة الاتحاد الاشتراكي في ما يخص سياسة مصر الخارجية والداخلية.. سنرى مصرا أخرى بسياسة خارجية مختلفة عما نراه الآن، وكل ذلك بفضل سيطرة حزب بدأت تفوح منه رائحة الاتحاد الاشتراكيraquo;.
وفي مقال آخر بعنوان laquo;هل يرشح مبارك نفسه مستقلا؟raquo;، كتبت أن الانتخابات الثلاث الفائتة فضحت الحزب الحاكم والإخوان في الوقت ذاته، فرغم ما يدعيه laquo;الإخوان المسلمونraquo; ومؤيدوهم من أنهم القوة التنظيمية الكبرى المسيطرة في الشارع المصري، وكذلك رغم ما يدعيه الحزب الوطني الحاكم الذي يصف نفسه (ويصفه كذلك معارضوه) بأنه الحزب المهيمن على الحياة السياسية المصرية.. ورغم كل هذا laquo;الهيلمانraquo; والصخب المصاحب لأصحاب الطائرات الخاصة لأغنياء الحزب الوطني الحاكم وقادته التنظيميين، تلك الطائرات الخاصة التي تجوب البلاد طولا وعرضا، ورغم كل المؤتمرات الصحافية للإخوان وأشرطة الفيديو الخاصة بالمرشد وأعضاء الجماعة التي ملأت الدنيا.. رغم كل هذا لم يستطع لا الحزب الوطني ولا laquo;الإخوانraquo; ولا بقية المعارضة مجتمعة، وبكامل قوتها المزعومة هذه، أن يحركوا إلا 15 % ممن لهم حق الانتخاب في مجتمع يصل عدد من لهم حق الانتخاب فيه إلى أربعين مليونا.
إذن الذين شاركوا في العملية الانتخابية كانوا فقط 6 ملايين مصري من نحو 82 مليون نسمة من تعداد السكان الإجمالي!.. وتساءلت يومها عن laquo;من يمثل الستة والسبعين مليون مصري (الذين لم يشاركوا في الانتخابات) في البرلمان والحكومة؟ أين يذهبون وكيف يفكرون؟ هل أداروا ظهورهم للدولة وللعملية السياسية؟ وإلى أي عالم ينتمي هؤلاء؟ وما هي آراؤهم وتطلعاتهم وتوجهاتهم؟raquo;.. وقلت يومها laquo;هذه هي أسئلة مستقبل الاستقرار في مصرraquo;.
يقول الحزب الوطني الحاكم إن أعضاءه قرابة الثلاثة ملايين عضو نشط سياسيا، والجميع في مصر اليوم يتساءل أين هؤلاء الثلاثة ملايين؟ كانوا يقولون أيام الانتخابات إن الحزب الوطني الحاكم يسيطر على الشارع ويحكمه، أما اليوم فالحزب الحاكم في مصر هو حزب من يسيطرون على ميدان التحرير كما يعرفه المصريون، وليس على ميدان السادات كما تقول حكومة الحزب المفترض أنه حاكم. ميدان laquo;التحريرraquo;، اسم يردده المصريون منذ زمن، فقط الآن يعرف المصريون معناه الحقيقي، أو أنهم أكسبوا الاسم ذلك المعني الذي كان كامنا في الحروف ولا يراه أحد.
التعليقات