ياسر سعد

لعلها من تدابير الأقدار أن صناعة التاريخ في مصر مركزها ميدان التحرير، فالميدان هو ساحة الصراع بين الحق والباطل، والتحرير هو ما يهدف إليه جموع المواطنين في مصر، تحريرها من الظلم والفساد والطغيان وتحرير قرارها السياسي من التبعية والانقياد والمهانة. ما يحدث في مصر ستكون له انعكاساته ليس على مستقبل البلاد ومواطنيه فحسب، بل وستمتد التبعات والنتائج لتصل إلى العالمين العربي والإسلامي وإلى أرجاء المعمورة. من هنا أثرت الأحداث المصرية على البورصات العالمية وتصدرت نشرات الأخبار العالمية وهيمنت عليها بشكل كاسح. الأساليب القذرة التي استخدمتها السلطات المصرية، والدخول الصهيوني على الخط وبشكل فج ووقح، والأدوار الغربية والأميركية توزعت بين المفاجأة بما يجري ومحاولة كسب الوقت ليتسنى تهيئة البديل والذي يراد له أن يكمل مهمة مبارك في تكبيل مصر وفي إبقائها تابعاً يدور في الفلك الأميركي والصهيوني.
ثلاثون عاماً ومصر الدولة الكبيرة والعظيمة غائبة تماماً عن ساحة التأثير والمبادرة، لا بل وتقوم بدور الحارس والناطور للمصالح الغربية والصهيونية، فيما ينشغل أبناؤها إما في البحث عن لقمة العيش المغموسة بالقهر والذل أو ليهاجر أصحاب الخبرات والعقول منهم إلى الغرب أو ليمتطوا البحر يبحثون عما يسد الرمق في أوروبا بوسائل هجرة انتحارية. ثلاثون عاما من الدجل والتزييف وتحقيق إنجازات وهمية واستقرار خادع وأرقام اقتصادية كاذبة عمادها بيع مصر وأراضيها وخصخصتها بأسعار بخسة وصفقات مشبوهة تتسرب منها روائح العمولات والرشاوى.
لو كان الحكم في مصر وطنياً أميناً على البلاد وقرارها -كما الحال في تركيا- لما استطاعت الولايات المتحدة ضرب العراق وتدميره، ولما تجرأ الصهاينة على إحراق غزة ومحاصرتها وتجويع أبنائها ومحاصرة السودان ومصر مائياً، ولما تفتت السودان ولما بقي الصومال في مهب رياح التدمير وأعاصير الإفناء. لو كانت مصر كما يريد لها أبناؤها الشباب والأحرار في ميدان التحرير أن تكون، لما تجرأ الإيرانيون على المنطقة ينشرون التشيّع ويستهدفونها ليتقاسموا النفوذ فيها أو يتصارعوا عليه مع واشنطن إن كان في لبنان أو العراق أو غيرهما، ولما تجرأت سلطة عباس على تقديم التنازلات المهينة للصهاينة وملاحقة المقاومين وتصفيتهم واللجوء إلى القاهرة أو شرم الشيخ لتغطية مواقفهم البائسة وتصرفاتهم المشينة.
أحداث مصر، ومن قبلها تونس، فضحت الأكاذيب الغربية التي تتذرع بدعم الأنظمة الشمولية في بلادنا لدورها المزعوم بمكافحة الإرهاب. فها هي ميليشيات بن علي وقوات أمن مبارك تنشر الخوف والهلع وتفجر المنشآت والممتلكات وتقتل الأبرياء والعزّل جهاراً نهاراً في سبيل بقاء الطغاة على كراسي الحكم. لقد زعم نظام مبارك بأن متطرفين فلسطينيين هم من استهدف كنيسة القديسين في الإسكندرية رغم إعلان سابق منسوب للقاعدة عن استهداف الكنائس القبطية. وبعد تفجر الأحداث في مصر ورغم انسحاب الأمن وخلو الكنائس من الحراسات واقتحام مفترض للشباب لأقسام الشرطة وحصولهم على السلاح والمتفجرات وفرار الكثير من السجناء، فإن جميع كنائس مصر في أمن وسلام كاملين. هذه الأمور تطرح تساؤلات عن دور النظام وحلفائه الصهاينة في إثارة الفتن بين المواطنين مستخدمين سلاح quot;الإرهابquot; المزعوم ونشر الخوف والهلع.
الصراع في مصر سيعيد تماماً رسم خارطة القوى في المنطقة وفي العالم، فإذا انتصرت الإرادة الشعبية وعاد القرار لتصنعه التوجهات العامة، فإن عهد الاستقلال الحقيقي عن الاستعمار غير المرئي قد بدأ، وسيكون المارد المصري حاضراً في صناعة السياسات وإعادة رسم توازنات القوى. وسيفتح الباب أمام الشعوب العربية لتلتحق بركب الكرامة والحرية ولترفض سياسات الإذلال والتبعية والانكسار، وستتغير الخارطة السياسية في المنطقة وسيفرض العرب وبدعم تركيا مواقفهم ورؤاهم على الساحة الدولية.
المعركة في مصر هي بين الاستقلال والتبعية، والحرية والاستعمار، والإنسانية والعبودية، وبين تحرير المقدرات الاقتصادية وفتات المساعدات المذلة، من هنا فلن تكون سهلة ولا يسيرة خصوصا أن الصهاينة أعلنوها على الملأ أن المسألة بالنسبة لهم حياة أو موت، هيمنة أو اندحار. على طلاب الحرية في مصر أن يحذروا المكائد والمخططات فليست السلطات المصرية وحدها هي التي تديرها في مواجهتهم بل هناك أطراف كثيرة تساندها وتدعمها حتى لو خرجت من عواصمها تصريحات خادعة توحي بغير ذلك.