خضير بوقايلة

التخبط، لعله الوصف الدقيق والصحيح لحالة كثير من حكام العرب وهم يتابعون معنا نهايات الثورة التونسية ومخاض شقيقتها في مصر. لا ندري كم منهم سيكتب لهم أن يستمروا فوق كراسيهم إلى حين موعد القمة العربية المقررة قريبا في بغداد وكم منهم سيغامر ليحضر قمة فوق أرض تحترق ويترك بلده في ظرف عصيب دون أن يساوره أدنى شك في أن تلك الرحلة قد تكون الأخيرة التي يركب فيها طائرة رئاسية.
هذه ليست تهويلات ولا تمنيات نطلقها من عندنا، بل هو ما نقرأه في شفاه وتصرفات هؤلاء الحكام منذ النصر المبين الذي حققه شعب تونس على ديكتاتورهم الهارب، فقد تأكدوا أنهم لم يعودوا في مأمن من المارد الذي بدأ يتحرك في أحشائهم يطلب الخروج ليرى نور الدنيا التي حرموه منها لعقود وعقود. من كان يتخيل لحظة أن طاغية مثل زين العابدين بن علي سيخرج يوما ليبكي أمام شعبه ويعترف لهم أنه أخطأ في حقهم ويتعهد لهم بحل البرلمان وتنظيم انتخابات مبكرة وبكسر القيود التي كبلت ألسنة الناس وأفكارهم من التعبير الحر وفوق ذلك يؤكد لهم أنه لن يترشح للانتخابات المقبلة قبل أن ينهار ويطير من قصره هاربا مرعوبا؟ ومن كان يحلم يوما أن يرى فيه فرعون مصر الحديثة يرضخ ويرضى بتعيين نائب له ويقول لشعبه إنه لا يفكر في الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة مع نهاية العام، وهو الذي كان طيلة سنوات يتلذذ وهو يرى شعب مصر بشبابه ومثقفيه يتلوى غيظا للأنباء والتحضيرات المتعلقة بعملية التوريث، ومن كان يفكر أن يرى يوما المتجبر حسني مبارك يحدث شعبه عن قرار اتخذه بإلغاء مواد في الدستور كان هو من وضعها لتقييد إرادة المصريين في ترشيح واختيار من يريدونه لحكمهم؟ ومن كان يتوقع أن يسمع الرئيس اليمني علي عبد الله صالح يخطب ويطمئن شعبه أنه لن يعاود الترشح لذلك المنصب الملعون ولن يسمح لابنه أن يرث عرشه؟ ومن كان يفكر أن رئيس سورية الدكتور الشاب بشار الأسد سيطلع يوما على شعبه بوعد (مجرد وعد) يقول فيه إنه سيطلق قريبا حزمة من الإصلاحات السياسية ترفع الغبن عن شعب معرض لقضاء سنوات وسنوات في دهاليز المعتقلات لمجرد أنه قال كلمة واحدة أو كتب جملة لا ترضي النظام؟ لاحظوا أن أحدا من هؤلاء المرتبكين لم يتشجع ليتجاوز حدود الوعود، وهذا دليل على أنهم في حالة تخبط حقيقي وأنهم لم يلجأوا إلى ذلك صادقين ومؤمنين بما وعدوا به بل إنهم يريدون بذلك ربح مزيد من الوقت لعل مستشاريهم العباقرة يجدون لهم مناورات أخرى يعاودون بها الالتفاف على رقاب شعوبهم.
الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة الذي اعتقدنا أنه أصلب عودا من إخوته ظهر هو الآخر يوم الخميس الماضي منهارا وهو يطلق الوعود تلو الوعود ويتحدث عن شباب الجزائر بكثير من الحنان والود وكأنه لم يكن هو الذي خنق أنفاسهم لأكثر من إحدى عشرة سنة وترك الفاسدين يعبثون بهم وبأرواحهم لا يهمه من أمرهم شيء رغم صرخات الاستنجاد والحلول اليائسة التي كانوا يلجأون إليها. استبشر كثيرون خيرا يوم جيء ببوتفليقة ليتولى الرئاسة لأول مرة سنة 1999 وتوقع الناس أن تكون نهاية الظلم والاستبداد العسكري على يده، لكن سرعان ما تبين للمتفائلين أنهم خدعوا في الرجل الذي حاول أن يكسب ود العسكر على حساب شعبه وكم كان يحلو له أن يطلق عليه وصف القائد الأعلى للقوات المسلحة بل وقد استأثر لنفسه بلقب وزير الدفاع وهو الشيء الذي لم يفعله من سبقه من الرؤساء المنتمين أصلا إلى المؤسسة العسكرية على غرار الشاذلي بن جديد واليمين زروال. كل همه كان أن يقال له إنك نجحت في جعل الجنرالات تحت قدميك وأنك تفوقت عليهم وأنك أنت الرئيس الفعلي الحاكم في البلد، وهو ما كان الجنرالات يوهمونه به من دون أن يتغير من الواقع شيء.
لم يحظ أي رئيس جزائري بمثل ما حظي به بوتفليقة من امتيازات، فقد دخل البلد في هدنة سياسية وأمنية غير مسبوقة وفي عهده انتفخت خزائن الدولة من عائدات النفط حتى انفجرت، لكن للأسف لم تنل فيضانات البترودولار من الشعب شيئا بل عرفت طريقها إلى طبقة الشلة الحاكمة وأزلامهم، فتوسعت بذلك شبكات الفساد السياسي والإداري والمالي بفظاعة غير مسبوقة وازدادت في المقابل طبقة الفقراء تمددا وسجلت حالات الانتحار والهجرة غير الشرعية نسبا تصاعدية جنونية من دون أن تتحرك في رأس الأب الحنون شعرة واحدة، بل عوض أن يتساءل عن سر هذه الأمواج البشرية من الشباب والكهول وحتى الشيوخ والنساء والرضع الذين يلقون أنفسهم في اليم بحثا عن حياة أفضل في أوروبا أو موت كريم في بطون حيتان البحر الأبيض المتوسط، أوعز إلى الحكومة بسن قانون يطارد الهاربين والمهاجرين غير الشرعيين ويزج بهم في السجن!
لو سئل المولود أمس من بطن أمه عن سر استمرار الرئيس بوتفليقة في الحكم فترتين كاملتين قبل اغتصاب الدستور لجعله يتحمل وزر فترة ثالثة ورابعة بدأ المنافقون يروجون لها قبل موعدها بثلاث سنوات لقال لنا إنه ما كان ليبقى في الحكم وحال البلد في هذه الصورة من الفوضى والهمجية السياسية والاقتصادية والاجتماعية لولا أنه يفعل ذلك بقوة الحديد والنار. بوتفليقة عرف أن هناك أفضل من الشعب سندا للاستمرار على الكرسي فاختار أن يدير ظهره لشعب توهم ذات يوم أنه وجد أخيرا رئيسا يحرره من الأغلال المحيطة به. لم يكن فخامته مخطئا في نسج تحالفاته لأنه أدرك منذ البداية أن الشعب لم تكن له أية كلمة في جلبه إلى الحكم ولن ينفعه هذا الشعب إذا قرر صناعه أن يتخلوا عنه في لحظة خصام.
بوتفليقة الذي صار قليل الاجتماع بوزرائه بادر إلى عقد اجتماع وزاري يوم الخميس الماضي بدأه بقراءة الفاتحة على أرواح شباب سقطوا في الاضطرابات الأخيرة التي عرفتها عدة مدن جزائرية. في أستراليا شاهدنا أمس رئيسة الوزراء تقف أمام نواب البرلمان باكية مستحضرة خسائر الفيضانات الجارفة التي عرفتها البلد ولم تجف مياهها بعد، أما الرئيس الجزائري فقد تذكر بعد شهر كامل أن هناك شبابا سقطوا ضحايا سياسة القمع والتجويع والتفقير التي كرستها حكومته وحكومات الذين سبقوه فقرر أن يترحم عليهم ولا نعلم لماذا لم يذكره وزيره للشؤون الدينية بحديث تعلمناه في الصغر يقول إن التعزية بعد ثلاثة أيام تجديد للحزن، هذا إذا كانت نيته كانت فعلا الترحم والتعزية وليست تأجيج الغضب والحزن في نفوس عائلات الضحايا وأقاربهم.
في نفس الاجتماع أعلن بيان مجلس الوزراء أن فخامته كلف الحكومة بأن تنكب فورا على إيجاد صيغة قانونية تنهي قانون حالة الطوارئ المفروضة على الشعب منذ 19 سنة مع الاحتفاظ بروح هذا القانون وإدراجه في نص قانوني ثان، على أن يكون ذلك (في أقرب الآجال)، ولعباقرة اللغة العربية أن يجدوا لنا ما يعادل عبارة (في أقرب الآجال) في قاموس الأيام أو الشهور أو السنوات، لأن حكومتنا الموقرة عودتنا على استعمال هذه العبارة لتحديد آجال تمتد من ثلاثة أشهر إلى عشرين سنة، ولكم في مشروع الطريق السيار وقبله مشروع ميترو الجزائر ومشروع تعديل قانون البلديات أمثلة واضحة.
بوتفليقة تحدث أيضا خلال اجتماعه بالوزراء (والكلام لم نسمعه بل أورده البيان الوزاري) عن حماية واحترام الحقوق المدنية والسياسية والحريات الأساسية في الجزائر، واستدل على ذلك بما سماه (تعدد مشارب وانتماءات الأحزاب السياسية العديدة وتنوع الصحافة الوطنية وحيويتها وكون شعبنا يدعى دوريا للارتقاء كي يختار بكل سيادة من يحكمه على كافة المستويات من بين المترشحين المتعددين الذين يعرضون أنفسهم على اختياره). كلام لا يسعنا إلا أن نزداد غيظا ونحن نقرأه أو نسمع مذيعي نشرات الأخبار الحكومية يتلونه بتلذذ خبيث، حقوق مدنية محترمة وشعب يختار من يمثله في البلدية والبرلمان والرئاسة وصحافة متنوعة وأحزاب متعددة المشارب والانتماءات وكلام آخر لا أعيده هنا رفقا بأعصاب القارئ الكريم. هل هو يتكلم عن البلد الذي يحكمه أم عن بلد كان يعيش فيه قبل أن يعود إلى الجزائر رئيسا؟ ثم لماذا هذا التأكيد على هذا الكلام إذا كان ذلك فعلا حقيقة يلمسها المواطن الجزائري في الميدان؟ لماذا لا نسمع أوباما أو ميركل أو ثباتيرو أو ديفيد كامرون أو حتى ساركوزي يقولون مثل هذا الكلام لشعوبهم ويذكرونهم به؟ ولماذا أيضا اضطر بوتفليقة للحديث عن رفع حالة الطوارئ وعن هذه الإنجازات السياسية والحريات التي يتمرغ فيها الشعب الجزائري وقد كان وزراؤه يرددون قبل أيام أن مطالب الشباب الذين خرجوا إلى الشوارع غاضبين لم تكن ذات صبغة سياسية، بل انتفضوا فقط لأنهم خارجون عن القانون أو لأنهم أرادوا الاحتجاج على ارتفاع أسعار الزيت والسكر والصابون؟
رددوا كما تشاؤون أن الجزائر ليست تونس ولا مصر، لكن حاولوا قبل كل شيء أن تقتنعوا أنتم أولا بهذا الكلام ولا تسارعوا في لحظات تخبط لم تعد تجدي إلى البحث عن عوازل وواقيات ترد عنكم طوفان غضب شعبي قادم لا محالة، إن لم يكن اليوم فسيكون غدا والأفضل لكم أن تستمروا في أرق دائم حتى تنجرفوا جزاء بما كنتم تعبثون بشعب كره الحياة وبلاده بسببكم أنتم الذين تقولون إنكم موجودون حيث أنتم لأنكم نذرتم حياتكم لخدمة هذا الشعب وهذا البلد. ألا فاعلموا أن أكبر خدمة وأغلى تضحية ستقدمونها لشعبكم هي أن ترحلوا اليوم وليس غدا ولا الشهر القادم.