عمار علي حسن

quot;كانت شوارع القاهرة تغسل بالماء والصابون كل صباحquot;.. عبارة تكررت على ألسنة نخبة من مفكري الكويت ورجال اقتصادها وسياستها، ممن جاءوا قاصدين القاهرة في أيامها الزاهرة سعياً وراء العلم، يحفر كل منهم في ذاكرته ويلهث وراء الكلمات التي تتدفق من بين شفتيه، ويقول لي وفي عينيه امتنان وغبطة: quot;القاهرة كانت أجمل مدن الدنيا، ومصر كانت قبلتنا، قصدناها راجين فلم تردنا خائبين أبداًquot;.

قبل شهر واحد من قيام الثورة الشعبية المصرية قضيت عشرة أيام في الكويت بين هؤلاء ولا حديث إلا عن مصر، لكن مصر الجميلة التي ضاعت من بين أيدينا، وإن بقيت مستقرة في ذكرياتهم لم يطمرها النسيان. يقول لي المؤرخ يعقوب الغنيم: quot;كل شيء كان يجري في مصر يتردد صداه في الكويت، خرجنا في مظاهرات عارمة أيام العدوان الثلاثي وقلنا لعبدالناصر: لا تتنحَّ بعد هزيمة يونيو مثلما فعلتم أنتمquot;.

ويكاد الغنيم يبكيك وهو يحكي عن أستاذه العلامة محمود شاكر، الذي كان ينظم دروساً خاصة ببيته في الأدب والفكر للطلاب العرب، ويقول: quot;سجنوه ولاحقوه وألزموه بعد أن أفرجوا عنه بأن يتابع القسم كل يوم فأرهقه هذا، وأتيح لي أن أزور معه مسؤولاً كبيراً في المخابرات أيامها، فقلت له: إذا كنتم لا تعرفون قيمة هذا الرجل فامنحوه إذناً بالسفر وسنحمله على رؤوسنا في الكويتquot;.

ويسعدك شاب مثل أحمد المطيري، يعمل مصوراً تليفزيونيّاً، حين يقول: quot;شارك أبي في حربي 67 و73 ضمن الكتيبة الكويتيةquot; ثم يبتسم ويكمل: quot;تحدث لي كثيراً عن انبهاره بشجاعة المصريين في حرب أكتوبرquot; وبعد ليلتين يُعرفنا في quot;البرquot; حيث يضرب الكويتيون خياماً في الصحراء ليستعيدوا أيام زمان على صديق له قائلاً: استشهد أبوه في سيناء.

وتضحك مع رجل الأعمال جواد بوخمسين وهو يحكي عن أمثولة سائدة في بلاده قائلًا: حين تسأل شخصاً: هل أنت كويتي؟ ويجيب: أنا كويتي، فعليك أن تسأله: هل لديك بيت في مصر؟ فإن هز رأسه نفياً، قل له على الفور: أنت لست كويتيّاًquot;. أما إبراهيم الشطي أحد مثقفي الكويت ومدير الديوان الأميري فيسرد ذكرياته في جامعة القاهرة أيام طه حسين وأحمد أمين ويقول: quot;كنت أراهما لكنني تخرجت في قسم الجغرافيا، لأن أبي كان بحاراً ويحكي لي عن البلاد التي يبحر إليها فأحببت هذا التخصص، وتعلمته على يد علماء أفذاذ في مصرquot;، وحين تسأله عن تكوينه الثقافي يقول على الفور: quot;أدين بالعرفان لسور الأزبكية ومكتبات القاهرة التي كانت واجهاتها تجذبني فأدخر من مصروفي القليل لأشتري نفائس المعرفةquot;.

علي الغانم، رئيس غرفة التجارة والصناعة الكويتية، يحكي عن كلية فيكتوريا بالإسكندرية التي جاء إليها عام 1949 وزامل فيها الدكتور رشيد محمد رشيد، ويحكي عن روح التسامح التي كانت سائدة في عروس البحر الأبيض المتوسط، ويقول: quot;أبي كان مهتمّاً بأن يتلقى أبناؤه أفضل تعليم فأرسلني إلى كلية فيكتورياquot;، وحين تسأله عن سبل تعزيز الاستثمارات الكويتية في القاهرة يجيب: quot;بوسعكم أن تجذبوا عشرين مليون سائح بآثاركم المتنوعة العريقة، وبإمكانكم أن تحولوا ميناء بورسعيد إلى جسر تجاري كبير بين الشرق والغربquot;.

ويسرد عبدالعزيز البابطين الشاعر ورجل الأعمال حكايته مع الإسكندرية فيقول: quot;ذهبت إليها لأقضي شهر العسل عام 1962 ودرت على الفنادق فلم أجد غرفة في أي منها، وانتصف الليل فطرقت على باب بيت فخرجت إليَّ سيدة عجوز فقلت لها: أنا كويتي ومعي زوجتي ولا أجد مكاناً للمبيت في فنادق الإسكندرية، فأومأت برأسها ودخلت فخرج لي زوجها وقال: دقيقة واحدة يا ابني، ثم دخل ربما ليجهز لنا غرفة النوم الوحيدة، ثم سمح لي بالدخول فنامت زوجتي وجلست ساهراً طوال الليل، وفي الصباح جاءتنا طفلة صغيرة تحمل صينية الإفطار باسمة فاستبشرت بها ودسست في يدها عشرة جنيهات، وكانت أيامها مبلغاً كبيراً، فخرجت فرحة، وبعد دقيقة واحدة جاء الرجل عابساً وبين طرفي أصابعه النقود، وقال لي: يا ابني بيتي ليس فندقاً حتى تعطينا أجر مبيتك، فقلت له: quot;هذه ليست أجرة إنما تحية للصغيرة الجميلة، فقال: هل تريد إغضابي؟ فأجبته: لا، فقال: إذن خذ نقودك، والبيت بيتكquot;. وعلى ذكر البيوت يقول الغنيم: quot;كان الأهالي يرفضون إقامة العزاب منا، فكنا نتحايل على هذا الأمر بصعوبة شديدةquot;.

ويبين محمد السنوسي، وزير الإعلام الأسبق، صاحب برامج مشهورة في الخليج، المساهم في إنتاج فيلمي quot;الرسالةquot; وquot;عمر المختارquot;، كيف تشكلت قريحته الفنية حين درس المسرح بمصر، ويقول: quot;استفدنا من الخبرات المصرية كثيراً حين أطلقنا تلفزيون الكويتquot;. وحين تأتي على ذكر مجلة quot;العربيquot; مع الدكتور محمد الرميحي الذي ترأس تحريرها سنوات طويلة، يحكي لك عن المصريين الدكتور أحمد زكي والأستاذ أحمد بهاء الدين، فالأول أطلق هذه المجلة العريقة، والثاني تسلم منه الراية ولم يتركها حتى أصبحت درة ثقافية.

حكى رموز الكويت عن مصر التي رأوها في زمانهم الأول، ولم يدفع أي منهم الحديث باتجاه مصر التي أراها الآن.. هم يعرفون ما جرى، وأنا أدرك أنهم يستحون من الحديث عما أراه، ولكن أحدهم وهو الكاتب علي المتروك قال لي وهو يدوس على الحروف ليؤكد كلامه: quot;مصر مهما تدهورت أحوالها فبوسعها أن تنهض أسرع مما نعتقد، هكذا هي طيلة التاريخquot;.

ركبت الطائرة، ورحت أستعيد أنا والمخرج السينمائي الكبير عبداللطيف زكي، هذه الحكايات، وحين رأيت الزحام في مطار القاهرة قلت لنفسي في ثقة وأنا أضحك: ولو ... فبوسعنا أن نبدأ من جديد، ولم يمض سوى شهر واحد حتى جاءت هذه البداية التي فجرها الشعب العريق.