محمد السعيد ادريس

دائماً كانت دعوة إلغاء الطائفية السياسية تطرح في أوج استحكام الأزمات السياسية في لبنان وعلى الأخص أزمات تشكيل الحكومات، حيث تكتشف القوى السياسية المتنافسة، أي هذه الطائفية هي العائق الأكبر أمام تأسيس حكم ديمقراطي حقيقي يضع نهاية لتلك الإقطاعيات السياسية، وهيمنة ميراثية لعائلات بعينها على مصائر طوائفها دون اعتبار لقواعد الحكم الرشيد التي تعطي الأولوية لمتطلبات الفعالية السياسية التي لا يمكن أن تتحقق من دون إعمال لقواعد المواطنة المتساوية دون تمييز لأي قاعدة طائفية أو عرقية أو دينية، واعتبار عامل الكفاءة والفرص المتساوية القاعدة الأساس لتولي المناصب، لكن الآن وفي ظل الظروف المستجدة التي تواجه عملية تشكيل حكومة نجيب ميقاتي وإعلان سعد الحريري زعيم تيار المستقبل ومعه تحالفه السياسي (تحالف 14 آذار) عزمه على عدم المشاركة في حكومة ميقاتي، والتوافق بينه وبين شركائه على اختيار موقع المعارضة .

في هذه الظروف بات بالإمكان تشكيل حكومة لبنانية من كفاءات لبنانية مشهود لها بالوطنية والاقتدار يكون في استطاعتها كسر القيود التقليدية للحكم الطائفي وتجاوز تعقيدات حكومات الوحدة الوطنية وتوافقاتها الطائفية .

هذه الفرصة أسهمت ظروف متعددة في توفيرها أبرزها الشروط المعقدة التي طرحها الحريري وتكتله للمشاركة في الحكومة، وقبلها الظروف والأسباب التي أدت إلى إسقاط حكومته وإفقادها شرعيتها، وأبرزها انقياد سعد الحريري للضغوط الأمريكية والفرنسية الخاصة بالمحكمة الدولية وسلاح المقاومة التي أفقدته تعاطف قطاعات واسعة، كما وضعت نهاية للوساطة السعودية السورية، ووضعته وحكومته أمام طريق مسدود، فبانقياده للقبول بالشروط الأمريكية والفرنسية سحب الحريري، عملياً، اعترافه بالبيان الوزاري لحكومته في ما يتعلق بمعادلة ldquo;الجيش والشعب والمقاومةrdquo;، وألغى دور طاولة الحوار في النظر بالاستراتيجية العسكرية الدفاعية بإعلانه أن مواجهة سلاح المقاومة في سلم الأولويات الوطنية .

لقد وضع الحريري وتآلف 14 آذار الرئيس نجيب ميقاتي أمام خيار صعب باشتراطه أولوية ما يسمونه ب ldquo;السلاح غير الشرعيrdquo; (سلاح المقاومة، والمحكمة الدولية)، واحترام الدستور (الطائف)، وعدم المساس بالثوابت الوطنية والحفاظ على التوازن العام كي يقبل بالمشاركة في الحكومة، إضافة إلى المطالبة بالحصول على أكثرية الثلث الضامن في الحكومة، باعتباره، من وجهة نظره، يشكل صمام

الأمان ويوفر الاطمئنان إلى أن الفريق الآخر لا يستطيع أن يتجاوز الثوابت الخاصة بالمحكمة الدولية وبالسلاح ldquo;غير الشرعيrdquo; .

هذه الشروط التعجيزية كانت مؤشرات إلى عدم جدية الحريري وتحالفه المشارك في الحكومة ضمن رؤية ترى أن عدم المشاركة في حكومة ميقاتي وتكرار تجربة رفيق الحريري عام 1998 في بداية عهد الرئيس السابق أميل لحود، قد تعيد إلى فريق 14 آذار لحمته، وبما يضع حكومة ميقاتي في مهب رياح التطورات المقبلة، ولا سيما رياح القرار الظني الموعود، فضلاً عن الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردي .

هذا الرهان دفع الحريري إلى إعلان قراره في احتفالية الذكرى السادسة لاغتيال والده باختيار موقع المعارضة داخل البرلمان اللبناني، وهو ما يعني أن نجيب ميقاتي بات متحرراً من قيود تشكيل حكومة وحدة وطنية ومن كل التنازلات التي حرص على تقديمها لاسترضاء سعد الحريري ومن بينها استبعاد شخصيات سنية معارضة له أمثال رئيس الحكومة السابق عمر كرامي والوزير السابق عبدالرحيم مراد، والنائب السابق أسامة سعد وغيرهم، عن تشكيلته الحكومية، والقبول بشرط الثلث الضامن أو الثلث المعطل والاضطرار إلى تشكيل حكومة موسعة لاسترضاء كل الأطراف . الآن هو متحرر من كل هذه القيود، بل إنه متحرر أيضاً من ضغوط حكومة غير متماسكة يمكن أن تكون معرضة للانهيار، وخاصة في المواقف الحرجة المقبلة وفي مقدمتها الموقف من المحكمة الدولية، وهذا ما أخذ يفرض نفسه على مواقف شركاء نجيب ميقاتي وخاصة نبيه بري رئيس مجلس النواب الذي أعلن موقفاً واضحاً له أهميته من المحكمة الدولية .

ففي كلمة له باحتفال تخريج طلاب، اعتبر بري أن موافقة طاولة الحوار على المحكمة الدولية كانت قبل أن يصل برنامجها إلى لبنان، لافتاً إلى أن التحقيق الذي اعتمدته المحكمة ldquo;اعتمد على شهود الزور وتركيب السيناريوهاتrdquo; .

وأكد بري في نهاية حديثه موقفه على النحو الآتي: ldquo;مازلنا مع المحكمة التي تؤدي إلى كشف الحقيقة لا صنع أية حقيقة أو تزوير هذه الحقيقةrdquo; .

هذا الموقف الذي أعلنه بري هو أحد ثمار التحرر من قيود حكومة الوحدة الوطنية، ومؤشر مهم أمام نجيب ميقاتي للانطلاق في إعلان حكومته سريعاً معتمداً على الكفاءات الوطنية والأغلبية المريحة داخل مجلس النواب لبدء مرحلة جديدة من حياة لبنان قد تؤسس لتجاوز ضغوط وقيود الطائفية السياسية .