سركيس نعوم

أدرك الرئيس نجيب ميقاتي، ومنذ قرر ترشيح نفسه لرئاسة الحكومة منافساً بذلك الرئيس quot;المُستقالةquot; حكومته سعد الحريري، ان من مصلحته الحصول على quot;بركةquot; المملكة العربية السعودية قبل الإقدام على هذا الامر، وتحديداً على quot;بركةquot; خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز. ونبع ادراكه هذا من امور ثلاثة. الاول، معرفته للتأثير الذي للمملكة في اوساط اللبنانيين ولا سيما في اوساط السنّة منهم، وفي الوقت نفسه معرفته للاحترام الذي يكّنه لها هؤلاء ولدورها الداعم لهم ولبلادهم عموماً الذي عوَّلوا عليه دائماً. والثاني، معرفته للعلاقة التحالفية، بل لعلاقة التبني السياسي اذا جاز التعبير على هذا النحو، التي قامت بين المملكة والرئيس الشهيد رفيق الحريري منذ بدء تعاطيه الشأن العام في وطنه الاول لبنان مطلع ثمانينات القرن الماضي. ومعرفته بانتقال التبنّي المذكور الى نجل الشهيد زعيم quot;تيار المستقبلquot; ورئيس حكومة تصريف الاعمال والزعيم السنّي الاول في لبنان اليوم. والثالث، حرصه على توفير ظروف النجاح لنفسه رئيساً مكلَّفاً تأليف الحكومة، ثم رئيساً عاملاً لها، او بالاحرى حرصه على تجنّب المقاطعة والتهميش والهجوم من quot;ابناء جلدتهquot; كما يقال، وعلى الحصول على فرصة يُظهِر من خلالها انه غير معاد لهم، او غير خاضع لأوامر اخصامهم او اعدائهم وتوجيهاتهم.
إنطلاقاً من ذلك كله اتصل ميقاتي هاتفياً بالامير مقرن بن عبد العزيز الذي كان يرافق العاهل السعودي في رحلته الاستشفائية الى نيويورك، وكان الاتصال يوم السبت الذي سبق اثنين استشارات التكليف الرسمية، وأخبره انه يفكر في ترشيح نفسه لرئاسة الحكومة. ثم قال له انه يريد مباركة خادم الحرمين الشريفين له في هذه المهمة مؤكداً انه لن يدخل هذه quot;المعمعةquot; اذا لم يحصل عليها. اجابه الامير مقرن انهم الآن في الطائرة وانه سيعطيه جواباً على طلبه في اليوم التالي، اي الاحد. لكن الاحد مرّ من دون اي اتصال. ومر قبل ظهر اثنين الاستشارات من دون اتصال ايضاً. ولم يتلقَّ ميقاتي الاتصال إلا ظهراً وسمع اثناءه من مقرن: مبروك دولة الرئيس. شكره quot;المرشحquot; ميقاتي ثم قال له: انا أُقدِّر لك ذلك كله. لكنني اريد او اتمنى ان اسمع هذه الكلمات الداعمة من خادم الحرمين الشريفين نفسه. فرد مقرن بأنه سيتصل لاحقاً ويخبره بكل جديد. وهذه الـquot;لاحقاًquot; كانت بعد سبع دقائق اذ تحدث مقرن هاتفياً مع ميقاتي وابلغ اليه quot;ان خادم الحرمين الشريفين يبارك لك ويتمنى لك النجاحquot;. وما حصل بعد ذلك معروف. اذ كلّف رئيس الجمهورية ميشال سليمان الرئيس ميقاتي تأليف الحكومة الجديدة. وانطلق الرئيس المكلف بزخم وتفاؤل لانجاز مهمته. فهو من جهة يحظى بمباركة سعودية لا بد ان تنعكس ايجاباً عليه في اوساط السنّة الغاضبة عليه غالبيتها لتخلّيه عن الرئيس الحريري وquot;المستقبلquot; و14 آذار، ولتحالفه مع خصمهم فريق 8 آذار المدعوم كلياً من سوريا وايران الاسلامية. ومن شأن ذلك تسهيل حصوله على تمثيل سنّي مقبول في حكومته. وهو من جهة ثانية يحظى بدعم 8 آذار وحليفيه. ومن شأن ذلك تسهيل تشكيل الحكومة عليه وتسريعه. لكن حساب الحقل لم ينطبق على حساب البيدر. فتحالفه مع 8 آذار وراعييه الاقليميين لم يجنّبه العقبات البالغة الصعوبة، وفي مقدمها المطالب التعجيزية لـquot;التيار الوطني الحرquot; احد ابرز ممثلي المسيحيين في لبنان. ولم يجنّبه ايضاً العقبات البالغة الصعوبة شيعياً. كما ان مباركة السعودية له لم تترجم نفسها عملياً حتى الآن، اذ لا يزال الرئيس المكلف ميقاتي يواجه صعوبات في الحصول على تمثيل سنّي مقبول، الامر الذي قد يجعله مضطراً، في حال اصر على تأليف الحكومة، الى الاكتفاء بسنّة 8 آذار وسوريا وايران الذين لا يمثلون غالبية السنّة اللبنانيين.
ما هي اسباب عدم الترجمة العملية لـquot;المباركةquot; السعودية وعلى اعلى مستوى في المملكة للرئيس المكلف نجيب ميقاتي؟
اسبابها متنوعة في رأي عدد من المتابعين وعن قرب للمملكة العربية السعودية ولسياستها اللبنانية بخلفياتها العربية والاقليمية. السبب الاول معروف، وهو انشغال العاهل السعودي بصحته، واضطراره الى تمضية اسابيع بين اميركا والمغرب بين جراحتين ونقاهة. وقد انعكس ذلك تجميداً او بالاحرى شللاً لتسوية quot;السين ndash; سينquot; ادى في مرحلة لاحقة الى quot;موتهاquot; بعد نفض العاهل نفسه يده منها. والسبب الثاني، صار معروفاً وإن على نحو غير رسمي جراء تمسك المسؤولين الكبار في المملكة بالتحفظ وبوحدة الصف وتالياً بوحدة الموقف والكلمة في النهاية، رغم الاختلاف في وجهات النظر التي تكون برزت في السابق. وهو وجود خطين سياسيين سعوديين متناقضين في نظرتهما الى السياسة السورية في لبنان واهدافها، والى quot;التشاركquot; السوري ndash; السعودي في حل مشكلة لبنان وكذلك في تقديرهما لمدى محافظة هذا التشارك على مصالح بلادهم وحلفائها ولا سيما في لبنان. وقد عكست هذا التناقض تصريحات رسمية عدة قبل اشهر قليلة ادلى بها مسؤولون سعوديون داخل بلادهم وخارجها. كما عكسته اخيراً واثناء عملية تأليف الحكومة مواقف سعودية، يقول المتابعون انفسهم انها أُبلغت الى شخصيات سنّية محترمة كانت تعتزم تسهيل مهمة ميقاتي بالاشتراك في حكومته. علماً ان الحديث عن تناقض في هذه المرحلة قد لا يكون جائزاً وخصوصاً بعدما نفض العاهل السعودي يده من quot;السين ndash; سينquot;. فبعض هذه المواقف اعتبر ان الحكومة التي تشكل هي حكومة quot;نصراللهquot; (الامين العام لـquot;حزب اللهquot;) لا حكومة لبنان. وبعضها اقترح بشيء من الرسمية على الشخصيات مقاطعة الإشتراك في الحكومة مع وعود بالدعم في المستقبل وعلى كل صعيد. وفي هذه المرحلة جاء المؤتمر السنّي في دار الفتوى الذي شارك فيه ميقاتي فصار اسيره. ثم جاءت ذكرى استشهاد الحريري في quot;البيالquot;، فتوحّد الصف السنّي ndash; اللبناني من جديد. ولم يصدر عن السعودية اي شيء للتخفيف من كل هذه التعبئة.
هل يعني ذلك ان السعودية عادت في علاقتها مع سوريا وبسبب لبنان الى البرودة وليس الى القطيعة، كما كانت الحال قبل المصالحة في قمة الكويت منذ اكثر من سنتين؟
عن هذا السؤال هناك جوابان متناقضان. يؤكد الاول، ومصدره قريب من دمشق، ان العلاقة بين الدولتين لا تزال جيدة. وان المملكة انزعجت من حليفها سعد الحريري لتردده في تنفيذ quot;تسوية السين ndash; سينquot; وخصوصاً بعدما قال له خادم الحرمين الشريفين: نفِّذ انت وبعد ذلك ينفِّذ السوريون كل ما تريد. وعندما استمر التردد نفض العاهل السعودي يده، وطلب من نجله ابلاغ الرئيس بشار الاسد بذلك. اما الثاني، ومصدره قريب من الرياض فيؤكد العكس. اذ يشير الى ان الملك السعودي انزعج لمماطلة سوريا من quot;تسوية السين ndash; سينquot; بعد وضعها بالاشتراك بين الرياض ودمشق، وبأنه تخلى عنها عندما اجابته القيادة السورية، وبعد الحاح منه لمعرفة سبب تأخرها في التنفيذ، انها لن تنفذ لأنها لا تثق بالحريري.
اي من الجوابين اقرب الى الحقيقة والواقع؟
غالبية المعلومات المتوافرة تشير الى ان الثاني هو الاقرب. إذ أنه جرى تداول مضمونه اعلامياً، ولم تعلّق سوريا على ذلك. كما تناوله الرئيس الحريري علانية في ذكرى استشهاد والده في 14 الجاري. ولم تُعَلِّق سوريا ايضاً. فضلاً عن ان الاتصالات السعودية بشخصيات سنّية وحضها على عدم الاشتراك في الحكومة يمكن ان يكون مؤشراً لذلك.
في اي حال لا يمكن الجزم بهذا الموضوع في ظل اعتصام المملكة وسوريا بالصمت رسمياً، واعتمادهما وإن بنسب غير متكافئة التسريب غير الرسمي لوسائل الاعلام. ولذلك يتمنى الرأي العام اللبناني ان تكاشف قيادتا الدولتين الشقيقتين quot;شعوبquot; لبنان بالحقيقة اذ ربما يساعدها ذلك على تجاوز الاستعصاء الحالي لتأليف الحكومة. كما يتمنى ان تعودا الى التعاون. فهل هذا ممكن، وفي ظل التطورات العربية المعروفة؟