ياسر سعد

الأيام القليلة القادمة حاسمة ومفصلية في المشهد الليبي، ولا ينحصر الأمر في مستقبل البلاد فحسب، بل سيمتد إلى مستقبل رياح التغيير التي تعصف في المنطقة العربية، فهزيمة القذافي ونهاية عهده الدموي الفاسد سترفد حركات التغيير بدعم مادي ومعنوي كبير، فيما يشكل تمكنه من استرداد زمام المبادرة ضربة نفسية كبيرة للشعوب الساعية للتغيير خصوصا في دول عربية بوليسية تتشارك مع القذافي في الإصرار على إنكار الحقائق، وفي تدمير المدن بوحشية هائلة للتمسك بالسلطة ضمن حسابات تعتمد على التقسيم والتشظية. منذ الأيام الأولى لانتفاضة الشعب الليبي ترددت فكرة تقسيم البلاد، بل إن أول خطاب لسيف القذافي تحدث بصراحة عن الانفصال، وكرر تلك الكلمة في خطابه البائس تسع مرات، عدم قدرة أي من الطرفين على حسم المعركة لصالحه وتردد بعض القبائل خصوصا تلك التي ينتمي إليها دكتاتور ليبيا، قد يكرس واقعا انفصاليا مقلقا، مع التذكير بأن تفتيت دول المنطقة أمر يوافق هوى غربيا وصهيونيا كما حدث في العراق والسودان.
التدخل الأجنبي يبدو خياراً مطروحاً وتتزايد فرصه مع تزايد جرائم قوات القذافي ومرتزقته، وارتفاع الأصوات الداخلية التي تطالب الغرب بالتدخل سواء من خلال فرض حظر جوي أو عن طريق توجيه ضربات خاطفة للقواعد ومراكز كتائب القذافي ومرتزقته. التدخل الأجنبي له محاذيره وعواقبه، كما أن له دوافعه ومبرراته بالنسبة لقوات الناتو. الاعتراض الروسي والصيني على التدخل الغربي -خشية من ازدياد الهيمنة الأميركية على الموارد النفطية- يحول بين الناتو والحصول على غطاء دولي، كما أن القوات الأميركية والغربية التي تواجه المستنقع الأفغاني القاسي والوعر، تخشى من الانزلاق إلى منحدر آخر ومستنقع جديد قد يستنزف مزيد من المقدرات والهيبة الغربية.
من جهة أخرى يخشى الغرب من أن تتحول ليبيا -خصوصا إذا ما طال الصراع- إلى نقطة استقطاب للثائرين والمعارضين العرب الذين يجدون في التطورات الليبية قناعة بأن التغيير السلمي ليس هو السبيل المجدية مع أنظمة بوليسية، فيلجؤون للقسم المتحرر من ليبيا دعماً للثوار وللحصول على خبرات ضرورية لنقلها إلى بلدانهم الواقعة تحت هيمنة حكومات قمعية فاسدة، وإذا ما توثقت الأخبار عن دعم أنظمة عربية للقذافي في معركته الوحشية ضد ليبيا مدننا ومواطنين، فإن دوافع ومبررات وجود مثل هؤلاء المقاتلين ستكون بالنسبة لكثيرين مقنعة ومبررة، هذه الخيارات بالإضافة إلى الخشية من تصاعد نفوذ الإسلاميين وحتى المعتدلين منهم على ثوار ليبيا مع الحرص على المصالح الاقتصادية وتأمين تدفق النفط تدفع بالغرب خصوصا الدول الأوروبية للدفع في اتجاه لعب دور أكبر من مجرد التنديد أو العقوبات الاقتصادية أو السياسية على نظام القذافي. من الممكن أن يكون التدخل الغربي غير مباشر وغير مرئي، من خلال الاعتراف بالمجلس الوطني الليبي ودعمه بالخبرات العسكرية والطلب من دول عربية تزويد مقاتليه بالسلاح والعتاد، مما يحول بين الغرب والتورط المباشر ويحفظ نفوذه في الساحة الليبية.
خيارات صعبة وساعات حاسمة تواجه ليبيا وأهلها المنتفضين على حكم فاسد ودموي، وإذا كان البعض يستنكر على الليبيين الواقعين تحت نيران القذافي الطلب من الغرب فرض حظر على الطيران أو توجيه ضربات، ويقولون: إذا تدخل الغرب لامه البعض وإذا استنكف عاتبه آخرون! غير أن نظرة واقعية لمواقف الدول الغربية من ليبيا ودكتاتورها تظهر بجلاء أن تلك الدول تتحمل مسؤولية أخلاقية ومعنوية عما يتعرض له الليبيون من إبادة ومعاناة، فالسلاح الذي يقتلون به هو سلاح غربي بأموال ليبية، والقذافي غسل جرائمه الإرهابية الخارجية في لوكربي وغيرها بمبالغ طائلة من أموال شعبه المسحوق، وقد تلقى دكتاتور ليبيا وسفاحها مديحا وإطراء وزيارات من قادة الغرب في سبيل حصول دولهم وشركاتها على صفقات ومشاريع ليبية، فيما وصف بيان للخارجية الأميركية القذافي عام 2004 وبعد دفعه تعويضات لوكربي بأنه شريك مهم في الحرب على الإرهاب، وهو أمر كرره توني بلير حين كان رئيسا لوزراء بريطانيا. المشاركة الفعالة فيما يسمى بالحرب على الإرهاب أمر كرره كثيرا القذافي في الأيام الأخيرة، مستنكرا عدم وفاء الغرب لخدماته الجليلة في هذا المضمار، بل إنه يعتبر نفسه الآن في حربٍ على الإرهاب وعلى القاعدة، وإذا لاحظنا اختفاء التهديدات الإرهابية في دول عربية شهدت ثوراتٍ وغياباً للأمن مثل تونس ومصر لوجدنا أن الحرب على الإرهاب كانت في كثير من جوانبها حربا خادعة تستخدم الإرهاب كذريعة للهيمنة السياسية ولتخويف الشعوب وحرمانها من حرياتها السياسية وحقوقها الإنسانية.
في خطابه الأول قال سيف القذافي: laquo;إن الغرب وأوروبا وأميركا لن يسمحوا بإقامة إمارات إسلامية في ليبيا بالوضع الحالي، يمسكها مجموعة من البلطجية ومجموعة من الإرهابيين والمجرمين، أوروبا والغرب وأميركا لن يسمحوا أن يضيع النفط في ليبياraquo;. هنا يعترف خليفة القذافي بأن نظامهم الثوري في شعاراته وعبثه كان ضمن اللعبة السياسية الغربية فيما يسمح له أو لا يسمح.
الشعوب العربية تدفع غاليا ثمن صمتها على طغاتها، والثمن المكلف والمؤلم الآن أقل وبالتأكيد مما ستدفعه مستقبلا إن رضيت بأن يواصل حكمها والتحكم بها طغاة فاسدون وقتلة مجرمون.