Gideon Rachman - Financial Times

ما يحصل في ليبيا من سفك دماء يثير الصدمة، لكن لا يمكن مقارنته حتى الآن بالإبادة الجماعية التي وقعت في رواندا، حيث قُتل 800 ألف شخص، وفي حال ارتفعت وتيرة العنف في ليبيا بطريقة دراماتيكية، قد تشعر الجهات الخارجية بأنها مجبرة على التدخل، وسيكون فرض منطقة حظر الطيران أول خطوة في هذا المجال، مع أن الأمر يحمل معنى رمزياً كبيراً.

تتكرر عبارة 'لن يحصل ذلك مجدداً' بعد كل مجزرة دولية... وهي تتكرر في كل مرة يقع فيها حدث يذكّر بالمحرقة الشهيرة، فهذا ما قيل أيضاً بعد الإبادة الجماعية في رواندا، عام 1994، وبعد مجزرة سيريبرينيتسا، في البوسنة في عام 1995، ومع ذلك، ها هو النظام الليبي يقتل شعبه في الشوارع، من دون أي تدخل دولي فاعل لوقف سفك الدماء، فلا يعكس الوضع في ليبيا عبارة 'لن يحصل ذلك مجدداً' بل عبارة 'ها قد بدأ الكابوس مجدداً!'.

لا يعني ذلك أن العالم لم يحرك ساكناً، فخلال عطلة نهاية الأسبوع، أصدرت الأمم المتحدة قراراً بالإجماع شمل حظر السفر ضد كبار المسؤولين الليبيين ومصادرة أملاكهم، وكذلك، جرى الحديث عن احتمال اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية، وبحسب معايير الأمم المتحدة، فإنها تدابير صارمة بما يكفي.

ومع ذلك، عند النظر إلى الإجراءات الحاصلة في نيويورك، ما يثير الصدمة ليس نفوذ المجتمع الدولي بل مدى عجزه، وفي هذا السياق، قالت سوزان رايس، السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، إن القرار كان يهدف إلى 'وقف العنف ضد المدنيين الأبرياء'، فبينما يواجه معمر القذافي احتمال الهزيمة والموت، فمن غير المتوقع أن يؤدي إقفال الحسابات المصرفية أو التهديد بإخضاعه للمحاكمة إلى ردعه.

لذا تتداول الحكومتان الأميركية والبريطانية علناً الآن بفكرة اللجوء إلى التدخل العسكري ضد نظام القذافي، إلى جانب فرض منطقة حظر الطيران كخيارٍ أولي محتمل. ستكون أي خطوة مماثلة تطبيقاً لعقيدة 'مسؤولية الحماية'، وتكمن الفكرة الرئيسة وراء هذه العقيدة في أن العالم لا يستطيع بعد الآن تحمل الفظائع المرتكبة ضد الشعوب لمجرد أنها تحصل ضمن الحدود الوطنية للبلاد. في مرحلة معينة، يصبح التدخل الدولي، وحتى التدخل المسلّح، مبرراً.

عرض غاريث إيفانز، وزير الخارجية الأسترالي السابق وأحد العرابين الفكريين لعقيدة 'مسؤولية الحماية'، رأيه في الموضوع في صحيفة 'فاينانشال تايمز' (Financial Times) يوم الاثنين، فاعتبر إيفانز أن 'الحاجة إلى التدابير الحاسمة أصبحت ملحة' نظراً إلى سفك الدماء الحاصل في ليبيا، واعترف، بكل أسف، بمدى صعوبة التوصل إلى اتفاق دولي لإرسال قوات عسكرية ميدانية إلى ليبيا، وأبدى تأييده لخطوة فرض 'منطقة حظر الطيران' التي قد تشمل إسقاط القوات الجوية الليبية.

لكن حتى هذه اللحظة، لاتزال جميع هذه الاحتمالات في مرحلة التخطيط. لماذا يتم التعامل مع عقيدة 'مسؤولية الحماية' بهذا القدر من الحذر، حتى عند إقدام الدكتاتور التقليدي والغريب الأطوار على سفك دماء شعبه؟

بعض المشاكل المطروحة عملية، إذ يعتبر بعض المراقبين العسكريين أن منطقة حظر الطيران لن تفيد كثيراً في ليبيا، بما أن القذافي يعتمد أساساً على القوات الميدانية. من المحتمل أيضاً أن تصوّت الصين أو روسيا ضد أي قرار يصدر عن الأمم المتحدة ويمهد لاستعمال القوة، لكن يجب أن يعبر الأميركيون والأوروبيون أيضاً عن تحفظاتهم الخاصة والمبررة بشأن أي تدخل عسكري محتمل.

تكمن المشكلة في أن الأزمة الليبية تشهد أمرين ما كان يُفترض أن يحصلا. من جهة، ما كان يجب أن تتكرر الممارسات المريعة بحق الحشود ولا جرائم الحرب التي نجمت عن قلة الخبرة، كما حصل في رواندا وسيريبرينيتسا- ما أدى إلى نشوء عقيدة 'مسؤولية الحماية'. ومن جهة أخرى، لا يجب اللجوء مجدداً إلى التدخل العسكري الغربي للإطاحة بدكتاتور عربي آخر. في الوقت الراهن، تبدو تجربة العراق أكثر قوة وأهمية، ومع تطور الأحداث في ليبيا، قد يبقى هذا القرار مناسباً.

ما يحصل في ليبيا من سفك دماء يثير الصدمة، لكن لا يمكن مقارنته حتى الآن بالإبادة الجماعية التي وقعت في رواندا، حيث قُتل 800 ألف شخص. في حال ارتفعت وتيرة العنف في ليبيا بطريقة دراماتيكية، قد تشعر الجهات الخارجية بأنها مجبرة على التدخل. سيكون فرض منطقة حظر الطيران أول خطوة في هذا المجال، مع أن الأمر يحمل معنى رمزياً كبيراً، لكن نظراً إلى الوضع الراهن، يبدو أن الأجانب محقون بالتراجع عن إرسال قوات ميدانية، ولا تزال الفرصة كبيرة في أن يتمكن الليبيون أنفسهم من التخلص من حاكمهم.

ستكون مقارنة الوضع مع العراق هائلة ومفيدة، فقد كان صدام حسين دكتاتوراً أكثر وحشية من القذافي، وقلّة من الناس من خارج قبيلته حزنت على وفاته، لكن واقع أن سقوط صدام نجم عن الغزو الذي قاده الأميركيون، من دون دعم فعلي من الأمم المتحدة، أدى إلى المس بشرعية العراق الجديد، داخلياً وخارجياً. تلقى الأميركيون وحلفاؤهم اللوم على سفك الدماء والفوضى التي تبعت سقوط صدام، ولايزالون يشعرون بالمسؤولية تجاه ما حصل، ما يدفعهم إلى محاولة تصويب مسار الأمور.

في المقابل، تشتق قوة الانتفاضات الشعبية الراهنة وشرعيتها في الشرق الأوسط من واقع أنها وليدة البيئة المحلية في البلاد. هذه المجتمعات والشعوب تستعيد اليوم سيطرتها على مصيرها ومستقبلها، وهي بذلك تنفي كذبتين: الأولى هي أن العرب يفضّلون بطبيعتهم النظام الدكتاتوري والاستبدادي؛ أما الثانية، فهي أن جميع الأحداث المهمة في الشرق الأوسط تنجم عن مخططات شريرة تعدها القوى الخارجية.

حين ينجح الليبيون في الإطاحة بالقذافي، إذا نجحوا في ذلك، فهم سيحتاجون إلى جميع أشكال الدعم الخارجي- من مساعدات مالية، وإعانات إنسانية، والتعاون لبناء نظام قضائي سليم وإجراء انتخابات حرة، لكن قد يكون التدخل العسكري الخارجي خطأً كبيراً، فهو قد يساهم في إنقاذ حياة البعض على المدى القصير، لكن على المدى الطويل، ستؤدي هذه الخطوة إلى إفساد الفرصة الحقيقية الوحيدة أمام تحقيق سلام واستقرار دائمين في المنطقة. نأمل الآن أن يتحدد مستقبل الشرق الأوسط على يد المواطنين العاديين، بدل الحكام الدكتاتوريين المحليين أو القوى الخارجية.