غسان العزي
ابتداء من السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول الفائت أخذت أخبار الثورة الشعبية التونسية المفاجئة تحتل كل الحيز الإعلامي العالمي . لم يعد هناك من أخبار في العالم تقريباً سوى تلك الآتية من تونس، قبل أن ينتقل الاهتمام إلى ميدان التحرير في القاهرة انطلاقاً من الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني . انتصرت الثورتان الشعبيتان أمام ذهول المراقبين والمحللين الذين لم يتوقعوا، وبالكاد يصدقون، ما شاهدت أعينهم وسمعت آذانهم . واليوم يتكرر الأمر نفسه في ليبيا التي باتت مصدر المادة الاعلامية الأساسية لوسائل الإعلام في العالم كله .
لقد بدأت الثورة في مصر عملياً بعد أن نجح ثوار تونس في دفع الرئيس بن علي إلى الفرار . وبدأت الثورة الليبية عملياً بعد أن تمكنت الثورة المصرية من الإطاحة بالرئيس مبارك . وكأن ثمة ldquo;مايستروrdquo; يدير إيقاع الثورات العربية التي ما أن تحقق الواحدة مطلبها الاطاحة برأس النظام حتى تنطلق الثانية، وهكذا دواليك من دون أن تخطف الواحدة من الأخرى الأضواء الإعلامية الموجهة إليها .
كان هناك تشابه لافت بين الحدثين التونسي والمصري لجهة سلمية التظاهرات الشعبية وطريقة التصدي الرسمي لها وتعاطي الرئيسين المخلوعين مع الاحتجاجات والتراجع التدريجي وصولاً إلى تنحيهما تحت الضغط الشعبي المستمر من دون لجوء المتظاهرين إلى العنف رغم كل المحاولات الرسمية لجرهم إليه .
لكن تبدو الحالة الليبية مختلفة عن شقيقتيها، فالمعارضة لجأت إلى السلاح رداً على القمع الوحشي للنظام ولم تتركز في العاصمة كما تونس والقاهرة ولم يظهر فيها عنصر الشباب متصدراً الصورة، واعتمدت كثيراً على المعارضين المنفيين في الخارج والذين تناقلوا معلومات غير دقيقة أربكت المراقبين والمعارضين في الداخل على حد سواء . لقد بدت الثورة الليبية على شاكلة تمرد مسلح تقود مواجهته إلى حرب أهلية هدد بها القذافي علانية . ذلك أن الأنظمة العربية التي تلقفت الدرس التونسي تبنت طريقة استخدام الشارع الموالي لها في مواجهة الشارع المعارض وذلك كي لاتبدو الصورة كمواجهة بين سلطة تقمع وجماهير تحتج سلمياً . في مصر فشلت هذه الطريقة لأن بلطجية النظام سرعان ما انكشفوا في غياب استعداد هذا الأخير لهذا النوع من المواجهات . في ليبيا اعتمدها العقيد الشعبوي الذي احترف منذ عقود أربعة طويلة حرفة ldquo;الالتحام مع الجماهيرrdquo; التي تصرخ مرددة شعاراته الطنانة الجوفاء حتى تنقطع الأنفاس المسكينة . لم يكن من الصعوبة بمكان على ldquo;قائد ثورة الفاتح العظيمrdquo; أن يستدعي جمهوره الجاهز، من المحابين والمضللين المؤمنين به أيضاً، ليشن ثورة مضادة من دون سلاح بالضرورة . فجمهور السلاح، بعد فقدان الثقة بالجيش النظامي الضعيف أصلاً، يمكن شراؤه من أسواق المرتزقة في إفريقيا التي يحمل القذافي لقب ملك ملوكها .
وهكذا نشبت الحرب الأهلية التي وعد بها سيف الإسلام القذافي والأمور تبدو، وكأنها تسير في طريق التقسيم أو الصوملة بمعنى تمركز الثوار في بنغازي وبعض المدن المحيطة بها في الشرق الليبي وتمركز قوات القذافي في العاصمة والغرب إلى الحدود مع تونس، مع استمرار ldquo;حرب الكر والفرrdquo; بين القسمين إلى أجل غير معلوم .
الرئيسان بن علي ثم مبارك توجها بداية إلى الجماهير ليعلنا أن جل ما في الأمر عصيان محدود سوف ينتهي عما قريب، وهذا بالضبط ما يقوله القذافي عن الثائرين عليه . ولم يفت الرئيسين التونسي والمصري التحذير من الاسلاميين ثم من الفراغ الخطير في السلطة في حالة تنحي رأس الهرم ثم من الفوضى الخ . وهذا بالضبط ما يفعله القذافي . ثم في مرحلة لاحقة يبدأ الكلام عن موافقة النظام على الاصلاحات ثم عن مجموعة من الاغراءات للطبقات الشعبية (عدم التجديد، عدم التوريث، دعم بعض المواد الغذائية، إلغاء ضرائب وديون الخ . .) قبل أن تبدأ عمليا وبالسر ترتيبات التنحي أو الهروب بعد محاولة أخيرة لمواجهة الثورة بالعنف وبالاغراء عبر خطاب مؤثر في الوقت نفسه . وما أن يبدو فشل هذا الإجراء جلياً من خلال رفض الجماهير حتى يذاع خبر هروب الرئيس أو استقالته .
نحن الآن أمام مشهد مشابه في ليبيا وإن اختلفت طريقة الإجراء وسيناريو الثورة التي بات انتصارها حتمياً لأسباب كثيرة، أهمها أن الثوار لم يعودوا البتة قادرين على العودة للعيش في ظل نظام لن يتردد في الانتقام والفتك بهم واحداً واحداً من دون رحمة اذا انتصر . ومن جهته فالنظام لايستطيع ان ينهزم في المواجهة العسكرية بعد أن صدرت بحقه إدانات دولية وقرار عن مجلس الأمن وإحالة إلى محكمة الجزاء الدولية وغير ذلك . لقد أضحت اللعبة صفرية والسبيل الأفضل للخروج منها هو التفاوض لإخراج العقيد من ليبيا واخراجها منه بالقدر الأقل الممكن من الخسائر على البلد الذي يحتاج إلى إعادة بناء كاملة بعد هذه العقود الطويلة من التخلف والتعسف .
التعليقات