إياد الدليمي

متأكد أن كل من سيكتب عن مصور الجزيرة الشهيد علي حسن الجابر سيجد أكثر من مشكلة، فلا الكلمات ولا الدموع ولا حتى الحزن الذي سيغلف الألفاظ، قادرة على أن تفي حق هذا البطل الذي رحل تاركا وراءه إرثا من الإنسانية والطيبة والاجتهاد والتضحية، حتى أضحى نجما لن يغيب قريبا عن سماء الدوحة وسماوات عواصم عربية عدة، رصعت اسمه بكل عبارات الرثاء وأبلغ كلمات الثناء.
ليس علي الجابر إلا واحدا من أولئك الذين عرفوا قيمة عملهم، فراح يتسابق من أجل أن يكون حاضرا في أي ميدان يعتقد أنه سيمنحه فرصة لينقل الحقيقة المجردة بلا أي تزويق، فتنقل كثيرا حاملا عين الحقيقة التي لا تكذب، كاميرته التي أرعبت أنظمة الطغيان فترصدته واغتالته متوهمة أنها يمكن أن تكتم الحقيقة.
لم يكن علي الجابر مصوراً يحترم مهنته وحسب، بل كان إنسانا آمن بأن نصرة أخيه الإنسان واجب، لم ينتظر أن يكلف بواجبه إلى ليبيا، تطوع، قرر أن يذهب، لم تمنعه النيران التي كان يسعرها النظام هناك ويحرق بها شعبه، قرر أن يذهب ليكون شاهدا ويجعل العالم من بعده شهودا على مجزرة العقيد، لم يبال بما يمكن أن يحدث له، كيف يبالي وهو ابن الجزيرة، القناة التي أعطت العديد من أبنائها قربانا على مذبح الحرية.
عرفت الشهيد علي الجابر خلال مناسبات صحافية عدة، غير أني عرفته عن قرب أكثر في البحرين، عندما ذهبت في مهمة صحافية لتغطية الانتخابات التشريعية التي جرت هناك في أكتوبر الماضي، جاءني حاملا كاميرته بمركز الرفاع الانتخابي صباح يوم التصويت، ومعه مايك الجزيرة، كنا ننتظر خروج رئيس الوزراء البحريني من مركز التصويت، وقف إلى جانبي، ناولني المايك، قال لي: laquo;خذه معكraquo;.
بعد قليل عاد، قال: إنه موجود بمفرده هنا، وزميله الصحافي الآخر ذهب بكاميرا أخرى إلى مركز آخر، مازحني، قال: laquo;الله يعينك، المهمة صارت باثنينraquo; تبسم كعادته، ثم أخذ مكانه بين مجموعة من المصورين، اعتلى حائطا لم يكن مرتفعا كثيرا خارج المبنى، سألته: laquo;كيف يا أبا عبد الله صعدتraquo;، ضحك، وقال: laquo;شباب شبابraquo; وفعلا كان كذلك، كان شبابا، لم يفت العمر في عضده، فإيمانه بمهمته ورسالته كان يجعل دماء الشباب الحارة تغلي في عروقه، حتى انعكست على ثغره الباسم الذي لا تعرف سره إلا عندما تحتك به عن قرب، لا أدري ربما كان يرى منذ زمن تلك الخاتمة الطيبة التي ختم الله له بها.
إن ما فعلته ثلة القذافي باستهداف فريق قناة الجزيرة ومقتل أحد أبرز أعلامها، علي الجابر، لا يجب أن يمر بلا عقاب، فدماء هذا البطل التي امتزجت بدماء إخوانه الليبيين، ستؤكد من جديد لكل الطغاة أن صوت الحق لا يمكن أن يقمع، ولا يمكن بعد اليوم أن يبقى الشعب وحيدا، ما دام هناك أناس مثل علي الجابر يؤمنون بأهمية كشف الحقيقة ونصرة المظلوم.
الشهيد يرى مقعده من الجنة كما أخبرنا بذلك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فكان الجابر في زيارة إلى ضريح شيخ المجاهدين عمر المختار في بنغازي، وفي طريق العودة استشهد.
ربما كان الجابر قد تمنى في تلك اللحظة عند ضريح المختار أن يقابله، أن يجلس معه، أن يحدثه عما يجري اليوم لشعبه الليبي، ربما كان الجابر يمني النفس لو أنه كان شاهدا بكاميرته على لحظة إعدام المختار، أن يسمع منه مشاعره وهو يصعد إلى حبل المشنقة، ربما، فكان له ما أراد. أبا عبدالله، كفيت ووفيت، أديت الأمانة على أكمل وجه، وأطلعت العالم بعين حقيقتك على ما يرتكبه العقيد بحق شعبه، فبادلك الشعب المظلوم وفاء بوفاء، وحباً بحب، فخرجت خلف جنازتك الآلاف في مشهد مهيب، ومنظر أبلغ من الكلمات، فحق لك أن تنام قرير العين، هادئ البال، واعلم أن تلامذتك الذين عرفوا كيف تنقل الحقيقة سيواصلون الدرب، ففي أمان الله وحفظه أيها الشاهد الحي.