سمير عطا الله
كنا نسكن في لندن، ناحية غرب المدينة. وكنت أحيانا أذهب لزيارة مكاتب laquo;الشرق الأوسطraquo; في هاي هولبورن، قبيل الناحية الشرقية. أذهب وأعود مشيا، عابرا هدوء هايد بارك ثم زحام بيكاديللي وقناطره، ثم متأملا عناوين المسرحيات في laquo;شافستبري أفنيوraquo;، قبيل محطة الوصول. إلى جانب المسارح، كان على طرف الشارع مركز للإطفاء. وكان يصدف أحيانا أن يكون المركز قد تلقى نداء من مكان ما، فأرى هؤلاء الشجعان كيف يهرعون في سرعة مذهلة إلى سياراتهم الضخمة وهم يرتدون ثيابهم بسرعة، من دون أي تردد أو تأفف أو تذمر؛ لأنهم اضطروا إلى قطع لعبة الورق.
كنت دائما أقول في نفسي: ما هذه المهنة؟ أي نوع من الشجاعة والتضحية والقوة والبراعة والتدريب تتطلب؟ كيف يختار المرء مهنة تقتضي مواجهة النار أو اختراقها، أو خصوصا المخاطرة بتنشق الغاز المميت الذي يختاره المنتحرون؟ صغرت تلك التساؤلات وأنا أتابع 50 إطفائيا صمدوا في مفاعلات فوكوشيما يحاولون تبريد الجنون النووي الذي حركه التسونامي على مصير اليابان برمتها. laquo;خمسون رجلا بلا وجوهraquo; سمتهم laquo;التايمزraquo; مكثوا في حرارة لا تُطاق، يعرضون أنفسهم للاختناق بأردأ وأشد وأقبح أنواع الغازات، من أجل أن يخففوا هول الكارثة على شعبهم. وإذا بالإمبراطور الذي سمع اليابانيون صوته (صوت والده) للمرة الأولى في أغسطس (آب) 1945 يعلن استسلام اليابان، يسمعون صوته للمرة الثانية ليبلغهم بكل جدية ووقار أن الأمر خطر.. تكاتفوا.
تذكرت إمبراطور ليبيا وهو يهاجم شعبه برا وبحرا وجوا. تذكرت كيف واجهت لندن غارات هتلر خلال الحرب. وكيف واجه النيويوركيون غزوات 11 سبتمبر (أيلول). وكيف أن المصيبة توحد الناس وتبعث فيهم الهمة. لكن عينيّ لم تفارقا مشاهد الدخان في مفاعل فوكوشيما. وأحب أن أقر بأنني لم أعد أقوى على متابعة مشاهد الكارثة في اليابان. ولم تبد لي بلاد الشمس بعيدة في أقصى الشرق، بل بدت قريبة من كل مكان. فكل ما تعرضت له محتمل حيثما كان: التسونامي والهزة والتسرب النووي.
ماذا كان رئيس الوزراء الياباني يعني عندما قال إن هذه أسوأ كارثة منذ 1945؟ لعله كان يقصد أن هذا الشعب العجيب سوف يعيد بناء البلد من جديد. أعلن هيوهيتو الاستسلام العسكري عام 1945 ثم بدأت اليابان تعمل لكي تبني ثاني اقتصاد في العالم. كأنما قدر الشعوب فائقة العمل والإنتاج أن تدمَّر وتنهض من جديد.
نصف مليون ياباني مشرد تحت الثلوج وفي الخوف من الإشعاع النووي. ألوف يقفون في صفوف طويلة من حولهم ركام القيامة. هل لاحظتم أحدا ينتحب في صوت عال؟ هل رأيتم أحدا يحاول تقدم أحد؟ هل شاهدتم أحدا يتوسل إلى أحد؟ كيف تنشأ وتُربى هذه الشعوب الغريبة؟ وإذا كنا لم نشاهد إطفائيي المفاعلات الذين بلا وجوه، هل شاهدتم كيف يعمل رجال الإنقاذ وسط الركام؟
التعليقات