فهمي هويدي


لأننا حديثو عهد بالممارسة الديمقراطية فإن بعضنا تصور أن الخلاف السياسي مقدمة للقطيعة والخصومة التي تنتهي بالتكفير السياسي. علما بأنه في السياسة ــ كما في الدين ــ فإن الاختلاف في الرأي لا يعني بالضرورة أن طرفا مخطئا والآخر مصيبا، ولكن قد يكون الاثنان على صواب ولكن بين الناس من فضل صواب على آخر. في هذا السياق فإننا نستشهد في تعزيز هذه الفكرة بتعدد المذاهب الإسلامية، ونعتبر ذلك دليلا على أن الصواب له أكثر من باب. ومعلوم أن المجتهد في الدين إذا أخطأ فله أجر وإذا أصاب فله أجران. ولئن جاز كل ذلك في أمور الدين فهو أجوز في شؤون الدنيا.
أقول ذلك وفي ذهني أصداء التعليقات التي ترددت في مصر عقب إعلان نتائج الاستفتاء على تعديلات الدستور، التي كان بعضها امتدادا للتراشق الذي حدث في الأيام الأخيرة التي سبقت التصويت على التعديلات. أعنى حين تحول الحوار حول التعديل إلى اشتباك بين أنصاره ومعارضيه. وخلال ذلك الاشتباك تم تبادل الاتهامات بين الطرفين، الذي تجاوز نقد الأفكار والمواقف إلى تجريح الأشخاص أو الفئات التي تدافع عنها. رغم أننا نفهم أن موضوع الخلاف الأساسي هو أي الطرق أفضل لبناء الدولة الديمقراطية في مصر، وهو ما وصف بأنه خلاف في الوسائل وليس في الغايات.
هذه الرؤية لم تتبلور بعد في خطاب النخبة المصرية على الأقل. ولن أتحدث عن أصداء ما جرى في أوساط بعض غلاة الناشطين، الذين اتسمت تعليقاتهم عبر الإنترنت بدرجات متفاوتة من الشطط والتجاوز التي لا تدعو فقط إلى المفاصلة والخصومة، ولكنها وصفت ما جرى بأنه تواطؤ وتجارة بدم الشهداء!
أوساط عقلاء النخبة ــ عدا استثناءات بسيطة ــ تعاملت مع نتائج الاستفتاء الذي أيدت فيه الأغلبية الكبيرة التعديلات الدستورية كالتالي:
أذاعوا أن التصويت لصالح التعديلات تم بناء على العوامل الأيديولوجية، في إشارة إلى أن الإسلاميين استخدموا الدين في اللعبة السياسية واعتبروا التصويت لصالح التعديلات laquo;واجبا شرعياraquo;.
وحين تبين أن نسبة المؤيدين 77٪ فإنهم سارعوا إلى إثارة الفزع بين الأقباط وأعداد غير قليلة من المسلمين بدعوى أن الأصوليين قادمون، الأمر الذى استدعى إلى الذاكرة تجارب وخبرات تقلق المواطن العادي، على رأسها نظام طالبان في أفغانستان.
في الوقت ذاته، وجه أولئك العقلاء نقدهم إلى الجماهير التي سلمت قيادها إلى الدعاة، وكانت النتيجة أنهم أساءوا الاختيار وأيدوا التعديلات التي كان يتعين عليهم أن يرفضوها.
حين يدقق المرء في هذه الرسائل يلاحظ عدة أمور. أولها أنها عمدت إلى التغليط والتعميم اللذين يتعذر افتراض حسن النية فيهما. إذ ليس دقيقا أن الناس صوتوا لصالح التعديلات انطلاقا من العوامل الأيديولوجية. لأن ثمة قرائن كثيرة تدل على أن نسبة معتبرة من المصوتين كانوا مشغولين بقضية الاستقرار، بعدما أقلقهم استمرار الاعتصامات والاضرابات. كما أنه ليس صحيحا أن كل الذين صوتوا لصالح التعديلات ينتمون إلى التيار الإسلامى، وإنما كان منهم ليبراليون وقوميون ويساريون انحازوا إليها لسبب أو آخر. في الوقت ذاته فإن الذين تحدثوا بين الإسلاميين عن الواجب الشرعي كانوا قلة استثنائية. أزعم أن تأثيرها بين الناس كان أضعف من تأثير توجيهات الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية اللتين نصحتا أتباعهما برفض التعديلات.
لابد أن نلاحظ أيضا ــ وهذه نقطة ثانية ــ أن اتهام الناس بأنهم انساقوا وراء الدعاة الذين وعدوهم بالجنة إذا قالوا laquo;نعمraquo;. يعبر عن استخفاف بأولئك الناس وتسفيه لوعيهم. وهو يتضمن رسالة مبطنة تقول: لو كان الناس عندنا أرقى وأفضل وأذكى مما هم عليه، لاختلف موقفهم وانضموا إلى الذين قالوا لا. وإذا أردنا أن نترجم هذه الرسالة فسنجد أنها تدعو في نهاية المطاف إلى تغيير الناس لكي يتوافقوا مع النخبة، في حين أن النخبة هي التي ينبغي أن تراجع نفسها لكي تصبح أصدق تعبيرا عن ضمير المجتمع وأشواق الناس.
من ناحية ثالثة فإن إطلاق مثل هذه الدعاوى الآن ــ بعد إعلان النتائج ــ لا يشكك فقط في ثقة النخبة في المجتمع، ولكنه يشكك أيضا في موقفهم إزاء الديمقراطية التي يقبلون بها فقط إذا ناسبت هواهم والتقت مع أفكارهم، وهي الديمقراطية الانتقائية التي تبطن شكلا آخر من أشكال الديكتاتورية.