رياض نعسان أغا

عجيب أن يكون القذافي بين ثورتين عن يمينه وعن شماله ولا يدرك أهمية الخطوات الاستباقية التي كان يمكن أن تنزع فتيل الانفجار الذي حدث في ليبيا. ولعله كان مصيباً في قوله (ليبيا ليست مصر وليست تونس )، فقد كان يعني قدرته على السحق والتدمير التي تفوق فيها على كل ديكتاتوريات التاريخ. والمهم أنه وضع الثورات العربية والأمة كلها في محنة قاسية حين اضطر شعبه للاستعانة بمجلس الأمن وبالغرب، كي يخلصه من حرب الإبادة التي يشنها عليه قائده، واحتار العرب ماذا يفعلون، فلاهم قادرون على حماية شعب ليبيا كي لا يدخل الغريب في الجسد العربي. ولاهم قادرون على أن يكتفوا بالتفرج على فظائع ما يحدث، ومن المفارقات التاريخية أن تنتهي ثورة الفاتح، التي وقفت، ولو بشكل صوري على مدى أكثر من أربعة عقود تناضل ضد الولايات المتحدة والاستعمار الغربي، إلى أن يطلب شعبها من معسكر أعدائه التقليديين أن ينقذوه من قائد ثورة الفاتح ومن جنونه الوحشي وانتقامه الهمجي، وإن كان ثمة تشابه بين ما يحدث في ليبيا وبين ما حدث في العراق، على الأقل على صعيد المقدمات، فهو أن كلا القائدين القذافي وقبله صدام هما من استدعيا الغرب وأعطياه مبرر التدخل، فحين احتل صدام الكويت توسلت إليه دول العالم أن يتراجع، لكنه أصرّ على غيه وعلى استبداده. وأذكر يومذاك أن الرئيس الراحل حافظ الأسد ناشده رغم ما بينهما من خلاف ألا يوجد مبرراً للتدخل الأجنبي لكن صداماً ركب رأسه وأخذه الغرور واضطر العرب أن يوافقوا على التدخل الغربي وشاركوا في تحرير الكويت. واليوم يكرر القذافي الجريمة ذاتها في عدوانه الوحشي على شعبه، ويضع الأمة كلها في مواجهة محنة خيار بين نارين، ناره أو نار الغرب.

وقد تباينت الآراء، فهناك من رأى أن تدخل الغرب هو حملة صليبية جديدة على ليبيا، وهناك من لم ينس بعد أن الشعب الليبي هو الذي طلب هذه النجدة، وهناك من يرى وهو محق أن الغرب تجاوز حد المهمة، وبات يستهدف المدنيين، وهو يناقش مهمته: أهي حماية المدنيين عبر فرض حظر جوي أم هي إسقاط القذافي؟ والمفارقة أن هذا الاضطراب في تقويم ما يحدث وصل إلى قائدي روسيا، فقد رأى بوتين أنها حملة صليبية بينما رأى ميدفيديف أنها ليست كذلك، وليس بوسعنا أن نتهم الغرب بأنه يتدخل في شؤون لبيبا، بعد أن أصرّ على وجود غطاء عربي لتدخله، وعلى أنه يلتزم بقرار مجلس الأمن بعدم القيام باحتلال، وهناك من يرى أن الغرب ضيق الخناق على القذافي وأغراه بالدعم حتى يجد مبرراً للتدخل، وأن النائب العام للمحكمة الدولية حرك القضايا ضد القذافي وأولاده لإجباره على متابعة حربه ضد شعبه، وهناك من يرى أن المجلس الانتقالي منح القذافي فرصة ثلاثة أيام للتنحي والخروج الآمن مع التعهد بعدم الملاحقة حقناً لدماء الليبيين لكن القذافي رفض وأصرّ على ملاحقة شعبه.

والمحنة الكبرى أن وجود الغرب بشرعية دولية لا يحقق أهدافاً معادية للأمة في ليبيا وحدها، وإنما سيتيح للغرب وللصهيونية من خلاله أن تفرد ذراعيها على ثورتين في الجانبين، ولن يكون بمقدور أحد أن يلوم الثورة الليبية إن هي اعترفت بالجميل للولايات المتحدة ولفرنسا بخاصة بعد أن أنقذتها من الإبادة وساعدتها على التخلص من كابوس القذافي، الذي جثم على صدر ليبيا أربعة عقود ونيف، ولئن كان الغرب قد تمكن من زرع القذافي في قلب الوطن العربي بشكل خفي منذ أن قام بما سماه ثورة الفاتح فلم تنكشف حقيقته على الملأ إلا حين شتم العرب وانتمى إلى أفريقيا. ورغم محاولاته لمنح quot;كتابه الأخضرquot; قدسية وجعل نظريته الفارغة ديناً إلا أن سذاجة فكره، جعلت ما يكتبه ملهاة وموضع سخرية، والمهم الآن أن الغرب والصهيونية لن يكونا محتاجين إلى العمل في الخفاء، وهذا لا يعني أن الشعب الليبي سيقبل مشاريعهم، ولا أن الغرب الصهيوني سيقدم مشاريع معادية للعروبة والإسلام بشكل فج، لكن الغرب سيضمن حضوره وبقاء مصالحه في الشمال العربي- الأفريقي وهو الخبير في سياسات الاستيعاب.

وثمة سؤال بدأ يلح على كثير من المرتابين فيما يحدث، أتكون هذه الثورات التي قامت في الوطن العربي فرصة تاريخية، سرعان ما التقطها الغرب الذي فشل في فرض مشروعه الذي سماه (الشرق الأوسط الجديد)، فبدأ بعد قلقه منها يستعد لأخذها إلى الفوضى الخلاقة كما يريد، ولا أشك في قدرة الشباب العرب على حماية ثوراتهم، وقد كنت من أشد مؤيديها رغم فداحة المصاب بمن قضوا من شباب الأمة بيد إخوانهم وأشقائهم من رجال الأمن الذين تحولت مهمتهم من الحفاظ على أمن الشعب إلى الحفاظ على أمن الحاكم وأسرته في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن.

لقد أخفقت الحلول الأمنية في إيجاد حلول لأية مشكلة سياسية، فالسياسة تواجه بالسياسة، وقد كانت الأخطاء الكبرى في البلدان التي نهضت فيها الثورات هي اللجوء السريع للحل الأمني الذي لا يملك سوى القوة المسلحة، وأنا هنا أجد من الحكمة أن تنفتح الحكومات العربية على الحوار الداخلي مع شعوبها، فالأمة التي تدعو العالم إلى حوار الحضارات والثقافات لابد لها من أن تبدأ الحوار داخل ثقافتها وسياستها.

إنه أمر مفجع أن نرى الدماء العربية تنزف في الساحات التي كان يمكن أن تكون ساحات حوار بدل أن تكون ساحات دماء، ويجب أن يقود الحوار عقلاء الأمة وحكماؤها، ويفترض أن تأتي الحلول السياسية قبل الحلول الأمنية وليس بعدها.

وأرجو أن يتنبه العرب جميعاً إلى خطر استغلال إسرائيل لما يحدث في الوطن العربي من اضطراب وجدته فرصة لتصعيد عملياتها الإرهابية ضد شعبنا الفلسطيني وبخاصة في غزة حيث يخشى الإسرائيليون من أن يحقق الفلسطينيون إنهاء حالة الانقسام ، والعودة إلى موقع وطني موحد.