الحسين الزاوي

يتساءل الكثير من المتتبعين للثورات التي كانت بعض الدول العربية مسرحاً لها، عن مصير التطلعات والآمال والطموحات التي رفعها ودافع عنها الشباب الثائر في شوارع المدن والساحات العامة . فالبرامج التي يراد تجسيدها ستصطدم لا محالة ببنية ونسق الدولة العربية التي تم تأسيسها في مرحلة ما بعد الاستقلال الوطني لأغلب الدول القطرية، خاصة أن البنية أو النسق لا يقبل من حيث التعريف، من بين التغيّرات إلا تلك التي تنسجم مع ركائزه الأساسية . لأن البنية كما يعرفها المختصون هي بمثابة ldquo;نسق من العلاقات الثابتة في إطار بعض التحولاتrdquo;، الأمر الذي يعني أن الثبات يمثل الخاصية الأساسية للنسق، أما التحولات فتأتي من أجل دعم النسق ومن داخله بطبيعة الحال ، لذلك فإن عملية استبدال نسق قائم بنسق آخر مغاير له تماماً، مسألة لا تجرؤ النخب المفكرة على طرحها، لأنها تعني بالنسبة لأغلبهم سقوطاً حراً في دوامة من الفوضى والطائفية وربما حتى الحرب الأهلية . لذلك فالقسم الأكبر من الثوار يريدون تحقيق تغييرات جوهرية ولكن ضمن استمرارية حكم الدولة- الوطنية، وما يعنيه ذلك من استقرار وديمومة لمؤسساتها الضامنة لوحدة الشعب وسلامة ترابه .

وغني عن البيان أن هذا التصور المركزي للدولة الذي يهيمن على المشهد السياسي العربي منذ عصر النهضة ، مأخوذ في مجمله من تجربة الحكم في فرنسا بعد انتصار الثورة الفرنسية وتحديداً بداية من سنة ،1792 التي عرفت سيطرة واسعة على الحكم في فرنسا من قبل اليعاقبة الذين شكلوا في البداية نادياً كان يدعو إلى تأسيس دولة وطنية موحدة تدافع عن السيادة الشعبية، وتكون ذات توجه مركزي وإداري صارم يعمل على إخضاع كل مناطق الدولة لسلطة العاصمة باريس وللغتها الموحدة اللغة الفرنسية، من أجل ضمان ما يعتبره أعضاء النادي وحدة وطنية لكل التراب الفرنسي ضد كل النزعات المنادية باللامركزية أو الجهوية المؤدية إلى الفيدرالية، أو استقلالية نسبية للمناطق الجغرافية أو جهات الوطن في حكم نفسها بطريقة أكثر فعالية بعيداً عن هيمنة السلطة المركزية في العاصمة . وباستثناء هذا التوجه المركزي لدولة اليعاقبة الذي أدى إلى سلوكيات ديكتاتورية أفضت إلى إراقة دماء الكثير من الفرنسيين من خلال رفع شعارات تنادي بالدفاع عن المصالح العليا للدولة الفرنسية، فإن النظرية اليعقوبية تعني في دلالاتها العامة وجود إرادة من أجل التضحية الفردية في سبيل تحقيق مصلحة عامة تتجاوز كل مصالح الأفراد، لذلك فإن خصوم هذه النظرية اتهموها بتصفية معارضيها بدعوى الحفاظ على المصلحة العامة، وبادعاء الحكم باسم الشعب من خلال الدفاع عما تسميه بالإجماع الوطني . وبصرف النظر عن التقييم الذي أنجزه المؤرخون عن حركة اليعاقبة في فرنسا، فإن تأثيرها مس أغلب الحركات القومية التي أسهمت في تأسيس الدول الوطنية في أوروبا .

وعليه فإن اختلاف وجهات النظر حول حركة اليعاقبة يُجسد إلى حد بعيد اختلاف المنظّرين حول ايجابيات وسلبيات النظام المركزي حتى في الدول العربية التي تأسست في مجملها انطلاقاً من حركات انطلقت من القمة باتجاه القاعدة، ولم يكن للقاعدة أي دور في اختيار شكل الدول ولا في رسم توجهاتها وأهدافها ، خاصة أن مركزية الدولة العربية مرادفة في مجملها لمركزية السلطة الأمنية والعسكرية المهيمنة على أغلب دواليب السلطة والحكم في مختلف البلدان بدعوى الحفاظ على وحدة الدولة، وحمايتها من النزعات الطائفية . وذلك في ظل ضعف كبير أو حتى غياب مفجع لمؤسسات المجتمع المدني التي تسمح للشعب بممارسة سلطته عن طريق ديمقراطية مباشرة، تضمن مصداقيتها هيئات منتخبة . وفضلاً عن ذلك فإن الثورات العربية لم تستطع حتى الآن أن تحسم أمرها بشأن طبيعة النظام الذي تريد تجسيده على أرض الواقع عبر صناديق الاقتراع ، لأن تعدد مراكز القرار يدفع بالكثيرين إلى التخوف من النسق السياسي اللامركزي أو حتى البرلماني، مفضلاً بذلك نظاماً رئاسياً مستقراً أو نظاماً هجيناً يجمع بينهما من أجل الحيلولة دون الوقوع في نوع من الاستقطاب السياسي ما بين الفاعلين الرئيسيين على الساحة السياسية .

وبالتالي فإذا كان الغرب يتخوّف، في مجمله، من إمكانية العودة إلى ديكتاتورية اليعاقبة خاصة في فرنسا ودول أوروبية أخرى، وما يعنيه ذلك من تضحية بقسم مهم من الحريات الفردية لمصلحة دولة مركزية قوية ؛ فإن النخب السياسية العربية تتخوف في المقابل من انفراط عقد الدولة المركزية المهيمنة التي باتت ترمز - للأسف- إلى ldquo;الوحدة الوطنيةrdquo; في ظل ما يشاع أنه غياب لتقاليد الانتماء الوطني، وضعف في حس المواطنة لدى فئات كثيرة من الطوائف والعرقيات المشكلة للكيانات القطرية في الوطن العربي . وحتى يتم إيجاد توليفة سحرية لهذه المعادلة المستعصية ، فإن عناصر كثيرة من طموحات الثورة والإصلاح التي تجتاح الدول العربية، ستظل تبحث بإصرار كبير عن أفضل السبل المؤدية إلى تخليص الشعوب من الخطابات المهيمنة التي لا تستحي من الحديث باسم الشعب، وترى في ما تقترفه من مظالم ضد مواطنيها خدمة للشعب وترجمة لإرادته المغيّبة .