محمد عبد اللطيف آل الشيخ
يقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله: (إذا جاء الدليل عن الله فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن رسول الله فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن صحابة رسول الله فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال). ويقول الإمام مالك رحمه الله: (كلنا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر) وأشار إلى قبره صلى الله عليه وسلم.
ويقول الإمام الشافعي رحمه الله: (إذا خالف قولي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم واضربوا بقولي عرض الحائط)؛ فلا أحد يدور معه الحق حيث دار إلا المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام؛ ومن قال إن قولي هو الحق الذي لا حق غيره فقد ادعى ما ليس له أن يدّعيه، مهما كانت منزلته ومقامه ومركزه الاجتماعي أو الوظيفي؛ لأنه جعل منزلته في منزلة (المعصوم) الذي لا ينطق عن الهوى. ومثل هذه الأمور هي من (الثوابت) التي لا يملك كائنٌ من كان تغييرها أو المساس بها؛ فالعبرة ليست بمن قال هذا القول، وإنما بمن أتى بالدليل وأقام الحجة؛ لقوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول)؛ فمن أتى بدليل من الكتاب والسنة، حتى وإن كان (أميَّاً)، فهو الأقرب إلى الحق، ومن قال قولاً لا يستند فيه إلى دليل فقوله مردود عليه، حتى وإن كان كبيراً في قومه مُبجلاً فيهم.. عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (ردّت) عليه امرأة وهو قائم يخطب على المنبر كما جاء في كتب السير، فانصاع لقولها، وقال قولته المشهورة: (أخطأ عمر وأصابت امرأة)؛ لم يتعصب لقوله، ولم يقل كيف لامرأة أن ترد على خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أثبت بمقولته تلك أن الإنسان حتى وإن كان في منزلة عمر بن الخطاب، وليس مجرد طالب علم أو عالم، (قد) يُخطئ، وإن حق الرد مكفول للمسلم، أي مسلم، متى ما كان معه الدليل؛ فالعبرة بالدليل وليس بمن يقول القول كبيراً كان أم صغيراً؛ هكذا علمنا الإسلام.
ويروي أبو نعيم في (الحلية) أن هارون الرشيد شاور الإمام مالك في أمور مختلفة؛ منها أن يُعلق كتابه (الموطأ) في الكعبة، ويَحملُ الناس على العمل بما جاء به، فأجابه الإمام مالك رحمه الله: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (اختلفوا) في الفروع وتفرقوا في البلاد ، و(كلٌ مصيب) ، فعدل الرشيد عن ذلك. وهذا عين الحكمة؛ وأس السماحة في الإسلام؛ فلو أنه - رحمه الله - قبل هذا (التكريم)، وحُمِلَ الناس على رأيه، وعاقب الخليفة كل من يُخالفه أو ينتقده، لما صار الاختلاف بين الأئمة معيناً واسعاً يغرف منه الخلف متى احتاجوا لاستنباط الأحكام ومعالجة النوازل فقهياً.
فمن المعلوم للجميع أن الاختلاف في الرؤى والفهم وتفاسير النصوص أمر لا مفر منه، وإنَّ تعدد المذاهب والاجتهادات والآراء، والرأي والرأي الآخر، والراد والمردود عليه، أفرز في نهاية المطاف (كماً) هائلاً ومرناً ومتعدداً للفقه الإسلامي جعل الشريعة بهذه المرونة، والقدرة على مواكبة تغيرات الزمان والمكان. وكان - رحمه الله - يقول فيما روي عنه: (لا خير في من يرى نفسه في حال لا يراه الناس أهلاً لها؛ وكان إذا سئل كثيراً ما يقول: لا أدري). فالعبرة بما يراه الناس في طالب العلم، وليس في ما يراه هو في علمه وأقواله، ولا يعرف الناس من هو الأقرب إلى الحق إلا من خلال الحوار بين وجهات النظر المختلفة؛ أي الرأي والرأي الآخر.
بقي أن أقول: أي عالم أو فقيه يزعم أن الله قد أوكل إليه دون سواه حماية الدين، والذود عن حياض الشريعة، فليطمئن، لأنه سبحانه وتعالى يقول: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).
التعليقات