فهمي هويدي


قبل أن يجىء إلى القاهرة وزير الخارجية التركي لكي يجتمع مع رئيس الوزراء ووزير الخارجية وأمين الجامعة العربية، كان قد قام في الأسبوع الذي سبقه بعدة زيارات ذات مغزى للبحرين والدوحة وسوريا، والتقى في أنقرة مع ممثلين عن نظام العقيد القذافي والمجلس الوطني الانتقالي في بنغازي، لم يكن ذلك مستغربا، لأننا أصبحنا نجد الرجل، حاضرا في قلب كل أزمة سياسية تقع في المنطقة، بعدما صرنا نجد لتركيا حضورا اقتصاديا مشهودا في جميع أنحاء الوطن العربي.
حين توترت العلاقة بين السنة والشيعة وتدخلت قوات درع الجزيرة الخليجية في البحرين، سارع الدكتور أحمد داود إلى المنامة لكي يكون على مسرح الحدث. وحين أصبحت قطر تقوم بدور بارز في المشهد الليبي وتستضيف بعض ممثلي المجلس الوطني الانتقالي في بنغازي، إلى جانب استضافتها لممثلي نادي باريس الذي أصبح شريكا في الحدث الليبي، فإنه شد رحاله إلى الدوحة ليكون على صلة بالترتيبات التي تجرى هناك. وحين انفجر الموقف في سوريا، وخرجت المظاهرات منددة بالنظام الذي يعد أحد أهم حلفاء تركيا في المنطقة، فإن الرجل استقل الطائرة فجرا من الدوحة، ليعقد سلسلة من الاجتماعات في دمشق تبدأ من الساعة التاسعة صباحا.
ليس هذا أمرا جديدا على الدكتور أحمد، ذلك أنه منذ ترك التدريس بالجامعة وعمل مستشارا لرئيس الوزراء رجب طيب أردوغان في عام 2003، ثم صار لاحقا وزيرا للخارجية في 2008. فإن حركته في خارج تركيا لم تهدأ، حتى أصبح يقضي في الطائرات وقتا أطول مما يقضيه في بيته. ولم يكن الجهد الذي يبذله يعبر عن همة وطاقة غير عادية فحسب، وإنما كان يعبر أيضا عن رؤية استراتيجية واضحة في التعامل مع العالم الخارجي عموما ومع العالم العربي بوجه أخص. ذلك أنه رفض في وقت مبكر الفكرة التي شاعت حينا من الدهر واعتبرت تركيا جسرا بين الشرق والغرب، وكان رأيه ولا يزال أن تركيا مؤهلة لأن تلعب دورا أكبر، وأنها ينبغي أن تكون عنصرا فاعلا ومؤثرا في الأسرة الدولية وليست مجرد معبر بين قارتين. ولكي تؤدي ذلك الدور فينبغي أن تستعيد عافيتها السياسية والاقتصادية أولا، ثم تتحرك في محيطها لكي تحل مشكلاتها العالقة مع جيرانها ثانيا وهو ما أطلق عليه سياسة تصفير المشكلات (زيرو مشاكل). وإذ تحقق ذلك إلى حد كبير فإنه اعتبر أن بلاده أصبحت تتوفر لها الكفاءة اللازمة للقيام بالدور الفاعل الذي تتطلع إليه. وكان العالم العربي هو إحدى الساحات التي جرى تنشيط تلك الفاعلية فيها. وتم التمهيد لذلك بتوسيع نطاق تبادل المنافع الاقتصادية وبإلغاء تأشيرات الدخول مع ست دول عربية، وبتوقيع اتفاقيات التعاون الاستراتيجى مع دول أخرى (مجلس التعاون الخليجي مثلا)، وبالتحرك النشط في الساحة الفلسطينية وهذه الخلفية ساعدت تركيا (التي أصبحت عضوا مراقبا في الجامعة العربية) على أن تبذل جهودا مستمرة لتحقيق الاستقرار في العالم العربي، وحسبما سمعت من الدكتور أحمد أوغلو فإن أنقرة انطلقت في ذلك المسعى من أمرين، أولهما اعتبار الاستقرار في محيطها العربي من عوامل صيانة الأمن القومى التركي، وثانيهما أن تركيا لا تستطيع أن تعمل وحدها في العالم العربي، ولكنها تعتبر أن الدور المصري لا غنى عنه. بالتالي فإن التعاون بين البلدين الكبيرين يوفر إطارا أمثل للإسهام في استقرار المنطقة والنهوض بها.
بسبب حساسيات غير مبررة لم يكترث نظام مبارك بهذا الملف، ولم يعبر عن الحماس للتعاون مع تركيا إلا في المجال الاقتصادي. لذلك كان لافتا للانتباه أنه ما إن سقط ذلك النظام حتى سارع رئيس الجمهورية التركية عبدالله جول إلى زيارة القاهرة، حيث التقى رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، داعيا إلى تعزيز العلاقات وفتح صفحة جديدة لتوسيع نطاق التعاون المشترك بين البلدين.
ما فهمته أن الملف الليبي كان موضوع البحث الأساسي في الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية التركي، وكان من شقين أحدهما يتعلق بوضع ومصير نظام طرابلس، والثاني يتصل بتسهيل نقل عشرات الآلاف من المصريين العالقين هناك على السفن التركية. وإذ قيل لي إن النتائج إيجابية على الصعيدين إلا أن ما آثار انتباهي في المشهد أن الوزير التركي اهتم بالموضوع وجاء إلى القاهرة منطلقا من أن استقرار ليبيا وثيق الصلة بأمن بلاده، في حين أن مصر اللصيقة بليبيا وبينهما حدود مشتركة وقفت متفرجة على ما يجري هناك، إذ لم تذهب إلى أبعد من محاولة إعادة المصريين من المنطقة الشرقية التي يسيطر عليها الثوار.
أبديت ملاحظتي لمسؤول دبلوماسي كبير في القاهرة، فكان رده أن ذلك الموقف لن يستمر طويلا، وأن العمل مع الأتراك في الملف الليبي بوجه أخص سيصدر بشأنه قرار إيجابي خلال الأيام القليلة المقبلة. ومازلت أتابع نشرات الأخبار في انتظار القرار.