صالح سليمان عبدالعظيم


في أعقاب الثورة المصرية، استغرب الكثيرون حجم المظاهرات والاعتصامات المتتالية في كافة مجالات الحياة وأنشطتها المختلفة، فلم تكن تمر ساعة إلا ونسمع عن مظاهرة هنا واعتصام هناك. ورغم أن هذه التجمعات كانت لها مقدمات كثيرة في المراحل التي سبقت حدوث الثورة، فإن الأمر اللافت للنظر هو تزايدها بشكل كبير فيما بعد حدوثها.

وإذا كان الكثيرون قد استغربوا حدوث هذا الكم الهائل من المظاهرات والاعتصامات، ناهيك عن إدانة البعض لها لما تسببه من آثار سلبية على العملية الإنتاجية التي لا تحتمل أي ضغوط إضافية، فإن حدوث مثل هذه الاعتصامات والمظاهرات في المراحل التالية للثورات، أمر طبيعي جداً يجب التعامل معه بمرونة بالغة لا تعيد أي ممارسات قمعية سابقة مارسها النظام المخلوع. ويبقى السؤال الهام حول أسباب القبول بهذه التجمعات، والقبول بها في مرحلة ما بعد الثورة وعدم رفضها أو إدانتها.

يأتي في صدارة هذه الأسباب البحث المباشر عن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية المسلوبة؛ فالملايين من أبناء الشعب المصري الذين واجهوا استلابا ممنهجا ومتواصلا من قبل النظام عبر سنوات طويلة، وجدوا في الثورة ملاذا آمنا يمكنهم من التعبير عن مطالبهم بحرية وعفوية. فرغم ما توفره الثورات من حريات خاصة بالتعبير عن المطالب الاجتماعية والاقتصادية، فإنها تخلق أيضاً مناخا من العفوية والبراءة لا يستشعره سوى الشعوب التي جربت متعة الثورات وانطلاقها. فالثورات غير محددة المعالم بشكل صارم، لكنها تتشكل يوما بعد يوم من خلال الملايين التي تنضم لها وتعيد صياغة ملامحها. فحينما بدأت الثورة المصرية في الخامس والعشرين من يناير، لم يكن أحد يتخيل أن تنتهي إلى ما انتهت إليه من خلع الرئيس والكثير من عناصر نظامه البائد، ناهيك عن حجم المطالب الشعبية التي تزداد يوما بعد يوم.

ورغم وضوح بعض المطالب من جانب الكثيرين من هؤلاء المعتصمين، فإن البعض الآخر يشارك فيها لمجرد الاستمتاع بالتواجد بين هذه الحشود الهادرة، ربما لأول مرة في حياته. فالانتماء للحشود ظاهرة إنسانية بحتة، تزداد في ظل المطالب الثورية والزخم المرتبط بها.

ورغم أن المطالب المشروعة المحددة تؤجج الكثير من هذه التظاهرات والاعتصامات، فإن اللافت للنظر هو وجود العديد من المشاركين بدافع المساهمة في الحشد الثوري والرغبة في المشاركة السياسية، تعبيرا عن الدعم لحقوق الآخرين ومؤازرة لهم، حيث يظل الباعث السياسي في الخلفية من أي مطالب حقوقية مختلفة.

وفي العالم العربي، حيث لا توجد مشاركة سياسية حقيقية تمكن الأفراد من التعبير عن حقوقهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فإن الثورات تخلق حالة من الانفلات التعبيري عن هذه الحقوق، إلى الحد الذي تبعث فيه أشكالا جديدة من المظالم التي لم يكن يدركها أفراد المجتمع، ناهيك عن السلطات الحاكمة والمهيمنة. وهذه الحالة هي ما نسميه بـ laquo;الجوع السياسيraquo;، الذي تطلقه الثورات وتمنحه ذلك الزخم من التعبير والمواجهة والانطلاق.

ففي مصر على سبيل المثال، عانى المواطنون لفترات طويلة من الحجر السياسي الذي أعاق أي إمكانيات للمناداة بالحقوق المختلفة، وهو أمر أدى إلى حصر أي ممارسات سياسية في أطر نخبوية ضيقة. ولكن مع اندلاع الثورة، فإنها خلقت حالة جديدة تتجاوز هذه النخب الضيقة إلى المستوى الشعبي العام، وهو أمر تفسره تلك الأطياف العديدة التي امتلأ بها ميدان التحرير في مصر، من دون التلون بتيار بعينه.

وبمجرد أن تُطلق الثورة المارد من القمقم، فإنه يشعر بقوة جديدة وافدة عليه تحرره من كافة جوانب الخوف. ويُعد التحرر من الخوف واحدا من أهم إنجازات الثورات بشكل عام، والثورة المصرية بشكل خاص، حينما شعر المصريون بالحماية الشعبية التي ولدتها الثورة، وهو أمر هام لا بد أن تحافظ عليه الثورات بعد اندلاعها؛ فبدون هذه الحماية الشعبية ينفرط عقد الثورات وتهتز وتفقد الزخم اللازم لها.

ومما يساعد على استمرارية هذه الحماية الشعبية لفترات قد تطول أو تقصر، حسب طبيعة الثورات والظروف التي تمر بها، هو ذلك الجوع السياسي الناجم عن مصادرة حقوق الأفراد لفترات طويلة. فممارسة الحقوق السياسية والدفاع عنها احتياج إنساني، مثله في ذلك مثل الاحتياج للطعام والشراب وغيره من الحاجات الأخرى. وهو أمر تغفل عنه النظم السياسية التي تتصور إمكانية مصادرة هذه الحقوق، سواء عبر القمع أو عبر الإغراءات المادية.

ولعل ما يؤكد حالة الجوع السياسي المستشرية في عالمنا العربي، أن الثورات والاحتجاجات التي اندلعت في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا والأردن والجزائر والمغرب، كان مطلب الحريات السياسية هو المظلة التي انطلقت منها كافة الحقوق الأخرى. فلم يعد المواطن العربي يهتم الآن بحجم المعاناة الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها، بقدر ما يعنيه التخلص من الهيمنة السياسية للنظم المتنفذة من خلال الحزب الواحد والرؤي الجامدة والوجوه السائدة، وهو أمر عبرت عنه الثورة المصرية بشكل كبير سوف يستمر لفترات قادمة، إلى أن يشعر المواطن المصري بالإشباع السياسي.