محمد كريشان

ما أصعب أن تكون صحافيا زمن الثورات العربية المتلاحقة! ما أقسى أن يخضع الباحث عن الأخبار وناشرها إلى تقييمات من يصنعونها من السياسيين وأمزجتهم المتقلبة! ما أسوأ أن يتحول من يغطي الأحداث إلى مادة سجال تكاد تتفوق قيمة وصخبا عن هذه الأحداث نفسها!
من تونس إلى مصر إلى اليمن إلى ليبيا إلى البحرين إلى سورية تأرجح تقييم الجمهور والسياسيين العرب بين شططين في المدح والذم على حد سواء.
في المدح قيل الكثير، في مرحلة من المراحل وفي دول بعينها، قيل إن هذا الإعلام إعلام مساند لنضالات الشعوب من أجل الحرية والكرامة، معاد للاستبداد والفساد، كاشف لمستور الاعتقالات والانتهاكات، صوت الشباب والعاطلين والمهمشين والمنفيين، منبر المعارضين والناشطين الذين طاردهم البوليس السياسي دون هوادة.
من كان يتغنى بهذه المعلــّــقات كانت المهنية الصحافية آخر همه.. مسألة لا تعنيه من قريب ولا من بعيد. ولماذا يصدّع رأسه بها طالما عبــّر هذا الإعلام عما يفكر فيه ويتمناه!؟. أما في الذم فقد قيل الكثير أيضا، في مرحلة من المراحل وفي دول بعينها كذلك. قيل إن هذا الإعلام كاذب ومفتر، محرض ومفبرك للأحداث، متآمر مع دوائر مشبوهة، صاحب أجندة حاقدة، يسيّــره أناس ذو نفوس مريضة وخلفيات فكرية مريبة. من كان يقول كل هذه المثالب كانت الحقيقة آخر همه، مسألة لم يتوقف عندها أبدا ولم تشكل له هاجسا. لم يكن راغبا أصلا في أن يرى غير ما يريد أن يرى حتى وإن وصل إلى حالة إنكار شبه مرضية.
طبيعي جدا أن يكون في صف المداحين أو الذامين ساسة معينون أو فئات محددة من الجمهور الواسع. الإعلام في النهاية، مكتوبا كان أو مسموعا أو مرئيا أو الكترونيا، يرمي ببضاعته في السوق ومن حق كل واحد أن يراها ويقيـّمها كما يشاء إعجابا أو مقتا أو تجاهلا. المشكل هو عندما يدخل الصحافي هذا المنطق المراوح بين الافتنان والهجاء، بمعنى ألا يرى الصحافي غضاضة في انعدام المهنية طالما سايرت أهواءه وقناعاته ثم يتبرأ منها ويشهـّــر عندما تصطدم بها!!.
طبعا هذا لا يعني أن الصحافيين أو مؤسساتهم معصومون من الخطأ أو أن بوصلتهم دقيقة في المطلق. التغطية الإعلامية للثورات العربية السابقة والحالية وربما المقبلة أو تغطية أي حدث آخر مهما كان مسألة تقديرية في النهاية وقابلة للنقاش بالتأكيد. ليس تطاولا أو افتراء أن يكون للمراقبين وعموم الناس آراء متباينة حول أداء وسيلة الإعلام هذه أو تلك ـ خاصة وأنه لم يسبق للإعلام العربي أن واجه تحديا مكثفا ومتلاحقا كهذاـ ولكن من المفارقة الصارخة أن يكون نفس الأداء مرحبا به في سياق ما ومستهجنا في سياق آخر لا لشيء سوى أن المزاج السياسي يستلطف هذا الأداء عندما يتعلق بتونس ومصر وينفر منه عندما يقترب من سورية على سبيل المثال لا الحصر.
خلاصة القول، أن الإعلام وصانعيه في كل هذه الثورات العربية لم يكونوا لا ملائكة ولا شياطين، لا أبطالا ولا عملاء، أصابوا هنا وأخطأوا هناك وترددوا بين هذا وذاك أو تعثروا. لم يكن دائما للإعلام بوصلة واضحة في جميع الثورات ولا كان منصفا أو مهنيا في جميعها. تسللت الاعتبارات السياسية وغيرها من هذه الثغرة أو تلك فأثرت بدرجة أو بأخرى.
القول بغير ذلك مكابرة أو تضليل. لا أحد كان على صواب دائم أو ضلال دائم.
لا أحد...لا الإعلام ولا الصحافيين ولا الساسة ولا الجمهور... فقد كان لكل حساباته المعلنة أو الضمنية وكل واحد أصابه تشوش ما في موضع ما لأن 'الكل دافنينه سوا' كما يقول المثل الشعبي.