هاشم الباش

أصبحت ظاهرة التكتلات الإقليمية تفرض نفسها في العالم الاقتصادي الذي نعيش فيه، واحتلت هذه التكتلات مكانة رفيعة في سلم الأهداف الاستراتيجية للدول نتيجة بروز هيمنة العولمة وترسخ أقدام منظمة التجارة العالمية وتعاظم دور الشركات المتعددة الجنسية في النشاط الاقتصادي العالمي.
ولا شك أن موقع التكتل يتأثر بثوابت ومتغيرات المحيط الخارجي أي الإقليمي أو الدولي وما يدور في أجوائه من تغييرات، ويصبح اللهث وراء التكيف أو التعديل أو التطوير في آليات العمل من خلال تقييم الإنجاز أمرا ضروريا من أجل الاستمرار في عالم لا يعرف إلا المتغير في حياته.
بمعنى أن أي تجمع إقليمي يتأثر بالفضاء الذي ولد من رحمه، لذا نجد مجلس التعاون لدول الخليج العربية يحمل في جوفه إشارات الزمان الذي عاشت فيه دوله، وإيحاءات المكان الذي ترعرعت في أحضانه أي الظروف التاريخية والسياسية والطبيعية والجغرافية والاقتصادية والفلك القانوني الذي يدور فيه. لقد أعطته تلك الظروف موقعا استراتيجيا سواء على مستوى الجغرافيا، لما تشكله منطقة الخليج من حلقة وصل بين مختلف القارات من طرف وعلى المستوى الاقتصادي، لما يملكه من نفط وغاز، حيث أصبح مع مرور الزمن مصدر الطاقة في العالم إنتاجا ومخزونا من طرف آخر.
لقد عصفت بالعالم تغييرات سريعة على مختلف الأصعدة كان نتيجتها تبلور علاقات اقتصادية ودولية وتكنولوجية مغايرة لما شهده العالم بعد الحرب العالمية الثانية، كانت سببا في تغير أنماط الرؤية للتأقلم مع الحقائق الجديدة التي ترسم الصورة المستقبلية لمحركات النمو العالمي، ولكن هذه الصورة حملت معها تحديات لم تشهدها دول العالم الغنية والفقيرة من قبل وأضحت مهمة التنمية تقوم على التكتل والعمل المشترك للدول من أجل الوقوف على الأقدام وتملك مقومات المنافسة التي تفرضها الشروط الجديدة للاقتصاد العالمي.
لذا شرع مجلس التعاون منذ تأسيسه في عام 1981 في ملاحقة هذه التغيرات وحقق إنجازات عديدة على المستوى الاقتصادي خلال مسيرة الثلاثين عاما التي سوف يحتفل بها في 25 من شهر مايو 2011 بعد توقيع الاتفاقية الاقتصادية الموحدة في السنة الأولى لعمر المجلس والتي اُدخل عليها تعديل حيوي في عام 2001 ليجعلها عملا مؤسسيا يتصف بملامسة أرض الواقع ومرحلة متقدمة من التكامل والوحدة. كان من ثمار هذا التعديل الإسراع في خطوات قيام كل من الاتحاد الجمركي 2003، والسوق المشتركة 2008، وتزايد سرعة الخطوة للوصول الكامل إلى الاتحاد النقدي والعملة الموحدة، حيث تمثل هذه الخطوات مشاريع تكاملية طموحة تقود التعاون الخليجي إلى الأمام.
وتعتبر انطلاق هذه السوق المشتركة في الأول من يناير 2008 أمرا هاما لأنه يمثل نقلة متميزة نحو التكامل للمواطنة الاقتصادية الخليجية. هذه المواطنة التي تعني تحقيق المساواة التامة في المعاملة بين مواطني دول المجلس في كافة المجالات الاقتصادية في جميع الدول الأعضاء، حيث أعطت الاتفاقية الاقتصادية لعام 2001 للمواطنة الاقتصادية توجها جديدا لنقل العمل المشترك من مرحلة التنسيق والتعاون إلى التكامل ووضع جدول زمني بذلك بحيث تُزال جميع القيود والضوابط التي تحد من تحقيق المساواة التامة.
لذا يصبح من الضرورة القيام بدراسات تقويمية متخصصة في مجالات التطبيق وآلياتها في مختلف دول مجلس التعاون حتى نستطيع تكوين أرضية يمكن أن تبنى عليها قرارات فاعلة تخدم العمل المشترك وتلبي نداءات المواطنين والمختصين التي يتم تداولها في وسائل الإعلام بين حين وآخر.
لا شك أعطت هذه الانطلاقة تفاؤلا كبيرا في إمكانية جذب الاستثمارات وفتح أبواب فرص عظيمة في تنفيذ المشاريع وسيساعد ذلك في خلق مضاعف لتوسعة آفاق الاستثمار. كما أن قيام هذه السوق سيشكل فضاء اقتصاديا أوسع وأقوى لمنطقة سوق يقدر إنتاجها بأكثر من 700 مليار دولار وتملك أكبر احتياط نفط وغاز في العالم وتصدر فوق نسبة 40 في المائة من النفط إلى أسواق العالم الخارجي. إضافة إلى ذلك ستكون السوق المشتركة قطبا جاذبا يسمح بالانتفاع من اقتصاديات المشاريع ذات الحجم الكبير التي تخفض التكاليف وتدفع إلى الاستفادة من التكنولوجية المتطورة ويخدم في تحقيق فائض اقتصادي وفق الجدوى الاقتصادية المثلى ويمنع الازدواجية، مما يعزز موقع دول مجلس التعاون وقدراتها التنافسية في الأسواق العالمية ويشجع على تأسيس شركات خليجية مساهمة عامة ستخدم بقاء رؤوس الأموال في دول المجلس دون الحاجة إلى البحث عن مواطن استثمار خارجية، فضلا عن الآثار الإيجابية في تقوية الموقف التفاوضي لمجلس التعاون في محيط الاقتصاد العالمي والنظام النقدي الدولي.
لقد أعطت الإنجازات التي تحققت خلال الثلاثين السنة الماضية مؤشرات إيجابية وأملا في القدرة على تحقيق الطموح وزادت من الخبرة والتجربة في عمليات التطبيق والممارسة. ويبدو أن المعرفة التي تراكمت عبر السنوات الثلاثين الماضية، ستكون قارباً لتقريب وجهات النظر وتعبيد الطريق من أجل تعزز التكامل المنشود الذي لا يمثل هدفا في حد ذاته وإنما وسيلة لخلق الظروف الملائمة لبناء الهياكل الإنتاجية بصورة مشتركة ومتكاملة حيث يقود ذلك إلى نشر بذور إمكانية تقوية الخطى ومواصلة الدرب من أجل تنمية مستدامة.