علي البلوي من الرياض

تستعيد مصر دورها السياسي الخارجي، في وقت تشهد القاهرة استقطابا سياسيا إقليميا حادا، لكن المتابع للسياسة الخارجية المصرية يرى أنها تستعيد ألقها السابق، وتتفاعل ومجالها الحيوي، عربيا وإفريقيا وإسلاميا وعالميا، لكن مصر الآن تعمل على صيانة سياستها الخارجية وتعمل على إزالة العطب الذي أصابها في فترة سابقة، وبخاصة ضمن مجالها الحيوي، خصوصا في حوض دول النيل؛ لما لذلك من علاقة بأمنها المائي الذي تصدع كثيرا في السنوات العشر الأخيرة؛ ولهذا كانت انطلاقة وفد الدبلوماسية الشعبية المصري إلى السودان وبعض الدول الإفريقية ليكون موازيا للدبلوماسية الرسمية ومتقدما عليها وفاتحا المجال لها لترميم العلاقات وهذه الدول وفقا لمتطلبات الأمن القومي المصري.

والدبلوماسية الشعبية، والدبلوماسية العامة، والقوة الناعمة والحية من أبرز الدبلوماسيات تأثيرا في عالمنا المعاصر، وقوة الحضور الدبلوماسي ترتبط في العادة في مجموعة الإمكانات والقدرات الذاتية المادية والمعنوية للدول والمجتمع والأثر التاريخي في تشكيل المعنى السياسي، ومصر كانت عبر التاريخ السياسي فاعلة ومؤثرة عربيا وإفريقيا وكانت على علاقة تكامل عضوي مع السودان تحديدا ومع إفريقيا أيضا، ولهذا كانت كلمة الرئيس الأوغندي في حفل استقبال الوفد الشعبي المصري فيها نوع من العتب على السياسة الخارجية المصرية التي أصابها نوع من العزلة الداخلية، والنمطية في الأداء في سنواتها الأخيرة؛ ولهذا قال الرئيس الأوغندي: مصر لم تزرنا منذ 40 عاما، والزيارة الوحيدة التي قام بها الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك كانت لمدة أربع ساعات فقط.

عندما تفتقد الدول مجالها الحيوي تفقد مع الوقت حضورها وتأثيرها، وفي العادة يأتي فقدان الدور والحضور ناجما عن ظروف عالمية وإقليمية، ونكوص داخلي، غير أن ظروف مصر كانت داخلية بالدرجة الأولى، وكانت السياسة الخارجية انعكاسا للصورة والرؤية الداخلية لدور مصر، سواء كان ذلك دورا فاعلا ومؤثرا وذا حضور، أو دور تقليدي ونمطي يعطي أولوية كبرى للأمن الداخلي، دون النظر على أن الأمن الداخلي وثيق الارتباط بالخارجي، وأن السياسة حركة ديناميكية متفاعلة بين الطرفين.

فقدان الدور أو تراجعه كان واضحا بالنسبة لكل محلل سياسي، وكان هناك تعطيل لهذا الدور؛ ولهذا وبعد ثورة 25 يناير تحررت السياسة الخارجية المصرية واستعادت مصر مكانتها السياسية، وهناك توقعات لانبعاث الدور المصري الجديد، انطلاقا من رؤية تفاعلية تربط بين أمن مصر الوطني والقومي وعلاقاتها بالمجالات السياسية الحيوية لمصر والعالم العربي، فمصر وإن نفضت الغبار عن سياساتها اليوم وتتفاعل فيها الدبلوماسية الرسمية مع الشعبية، فإن هذا التفاعل يعكس رؤية وروحا ودماءً جديدة للسياسة المصرية ولمكانة مصر.

تضررت مصر كثيرا من مرحلة الانكفاء السياسي الداخلي، وتأثر أمنها القومي وبخاصة في معادلة الأمن الإفريقي وتحديدا ما يتعلق بالأمن المائي، وأيضا بفاعلية علاقاتها العربية؛ ولهذا فإن المؤشرات تقول إن القاهرة بدأت تستعيد هويتها العربية والإفريقية والإسلامية، وإن هناك وعيا سياسيا كبيرا لمكانة مصر ودورها وحضورها السياسي.

وفد الدبلوماسية الشعبية للسودان تحديدا ولإفريقيا عموما هو استعادة لروح مصر وتأثيرها، ولعل الحديث السوداني المصري عن علاقات تاريخية واستراتيجية وتكاملية اقتصادية قد يؤدي إلى إعادة بناء محور الارتكاز والتوازن لمصر والسودان في ظروف سياسية واقتصادية وأمنية تدعو إلى مزيد من التنسيق والتعاون، وفكرة تشكيل وفد الدبلوماسية الشعبية، تعبير عن اتساع المجال لمشاركة القوى السياسية المصرية في رسم معادلة السياسة الخارجية المصرية الجديدة، وإن استعادة هذه العلاقات يأتي بموافقة وبطلب شعبي، وإن هذا الوفد يمثل مختلف الأطياف والتيارات السياسية المصرية، وهو يعكس حالة التوافق والتناغم الرسمي والشعبي في مصر على أهمية العلاقة مع دول حوض النيل التسع دول المنبع ودول المصب لما لهذه العلاقة من أبعاد تاريخية وحيوية بالنسبة للأمن المصري.

وزيارة الوفد الشعبي تأتي كمحاولة لإعادة بناء الثقة والعلاقات بين مصر وهذه الدول، ومحاولة إنقاذ ما تسببت فيه السياسة الخارجية النمطية لمصر في الفترة السابقة، وإن الوفد يسعى لترسيخ صورة إيجابية ومهمة حول أهمية العلاقات مع هذه الدول، واستعادت وهجها التاريخي كما كان سابقا، وإن الوفد يسعى بهذه الزيارات لتنقية الأجواء المشحونة والمتوترة، وتهيئة الأجواء لمهام دبلوماسية رسمية.

الوفد الدبلوماسي الشعبي إلى إفريقيا يعكس جانبا مهما من توجهات السياسة الخارجية المصرية، فقديما كانت هناك دوائر لحركة السياسة الخارجية المصرية الدائرة الإفريقية والآسيوية والأوروبية والأمريكية، لكنها في السنوات الأخيرة الماضية تقلصت إلى دائرتين فقط هما الأمريكية والأوروبية، تسببت هذه السياسة بالطبع بتأثيرات عدة على الأمن المصري، وبخاصة فيما يتعلق بالأمن المائي وتأثر السودان هو الآخر من هذه السياسة؛ ولهذا كانت زيارة السودان لها معنى تكاملي نوعي وخاص أيضا.

الرئيس السوداني عمر البشير ربما كان أول المهنئين بثورة 25 يناير المصرية وأول الزائرين للقاهرة، وقد طالب السودان بضرورة إنقاذ اتفاقية الحريات الأربع الموقعة بين البلدين منذ فترة والتي تقضى لمواطني البلدين بحرية التملك والعمل والتنقل والإقامة والتي تجسد معالم التكامل الاقتصادي والسياسي.

الدكتور السيد البدوي، رئيس حزب الوفد، أعلن مبادرة شراكة بين الدولتين غير هادفة للربح تقوم على تبرع رجال أعمال مصريين بـ 10 في المائة من ثروتهم لزراعة مليون فدان في السودان، على أن يتم تمليكها لأسر مصرية وسودانية ويتم توزيع ربحها الثلث للأسر المصرية والثلث للأسر السودانية والثلث لإدارة المشروع، وتحدث أيضا عن إلغاء اشتراطات حصول السودانيين على تأشيرة لدخول مصر، مؤكدا أن مصر والسودان دولة واحدة، ويجب أن تكون الحدود بينهما مفتوحة، وأن لديه استثمارات في الخرطوم ويشرع حاليا في بناء شركة للأدوية ستوفر بعد 18 شهرا، ألف فرصة عمل وستحقق نصف الاكتفاء الذاتي السوداني من الأدوية.

هذه الزيارة لاقت اهتماما لافتا من السودان حكومة وقوى سياسية؛ كونها تعزز العلاقات الأخوية والترابط التاريخي والحيوي، ويتجاوز مرحلة من العلاقات القلقة فقد أوضح المشير عمر البشير، رئيس الجمهورية، أن إنفاذ الاتفاقيات الخاصة بالحريات الأربع بين السودان ومصر ستكون هي المفتاح لتطوير العلاقات بين البلدين، مشيرا إلى أن الفترة المقبلة ستشهد شراكة حقيقية بين البلدين، خاصة في تحقيق الأمن الغذائي. وأكد البشير الدور الطليعي المصري السابق في إفريقيا ودعمها حركات التحرير الإفريقية، الأمر الذي أسهم إيجابا في قطع 34 دولة إفريقية لعلاقاتها مع إسرائيل إبان العدوان على مصر في العام 67، مشيرا إلى غياب الدور الريادي المصري تجاه إفريقيا والسودان خلال الفترة الماضية فيما يتعلق بالقضايا المصيرية. من جهته، فقد أكد نافع علي نافع، مساعد رئيس الجمهورية السودانية للشؤون الحزبية ونائب رئيس حزب المؤتمر لشؤون التنظيم: إن الشعب السوداني أكثر الشعوب احتفاء بالثورة المصرية، موضحا تطلع السودانيين لثمار هذه الثورة، وأبدى نافع سعادته بالمشاريع والأطروحات التي عرضها البدوي ورجال الأعمال المصريين قائلا quot;نحن سعداء بكل تلك الأفكار والمشاريعquot;.

من جهته، أكد الصادق المهدي، رئيس حزب الأمة المعارض: إن مصر والسودان في خندق واحد؛ مما يوجب التعاون لمواجهة مخاطر (مؤامرة) تقسيم القارة الإفريقية إلى شمال وجنوب الصحراء، وحوض النيل وحوض البحر الأحمر والأمن الغذائي والتكامل الاقتصادي. وطالب بالعمل على نظام عادل في حوض النيل بالتوقيع الفوري على اتفاقية عنتيبي لتأمين العلاقات بين دول الحوض أولا، ثم الحوار من أجل تحقيق التعاون الأقصى بينها. وطالب مصر بأن تسترد دورها الإقليمي بعد أن استرد شعبها حقه وحريته وكرامته، داعيا مصر إلى أن تستقطب حولها الدول العربية لحقن الدماء الليبية وتحقيق الديمقراطية، ودعا إلى نبذ المشاجرة حول ترشيحات منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية خلفا لعمرو موسى، وتأجيل انتخاب الأمين العام الجديد حتى تتضح الرؤيا في العالم العربي.

عموما، هناك إعادة بناء للسياسة الخارجية المصرية على أسس التوازن في العلاقات والمنافع والمصالح وعلى قاعدة مكانة مصر ودورها التاريخي والمركزي في العالم العربي،وفي حضورها الإقليمي والدولي.