أثارت العلاقات المصرية الإيرانية حالة من الجدل السياسي خلال الثلاثين عاماً الماضية، أي منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران، وانهيار العلاقات الدبلوماسية نتيجة لمزايدات متبادلة بين النظامين الإيراني والمصري على القضية الفلسطينية، خاصة بعد معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، واضعين في الاعتبار البعد الاستراتيجي الذي تحركت من خلاله الدولة المصرية آنذاك في تناولها لملف الصراع العربي الإسرائيلي، والذي تفتقر إليه إيران منذ قيام الثورة الخومينية، رغم المحاولات الإيرانية للتبني الديني للقضية الفلسطينية، ودعم بعض الفصائل الإسلامية الحركية في الأراضي المحتلة، وغيرها من دول المنطقة، إلا أنها محاولات بعيدة عن المشاركة الفعلية على خط النار، فدائماً تعتمد إيران على سياسة الحرب بالوكالة ومد النفوذ السياسي نتيجة لبعدها الجغرافي الذي تستعيض عنه بالسيطرة السياسية المباشرة.
فالخط البياني للعلاقات المصرية الإيرانية، دائماً ما يمر بمستويات هبوط وارتفاع حسب التفاعلات السياسية داخل البلدين وقيام الحركات الثورية أو الانتفاضات التحررية، فبعد حالة الوئام الملكي والتي انتهت بزواج سياسي بين الأسرتين العلوية في مصر، والبهلوية في إيران، بدأت مرحلة جديدة بين الدولتين، بقيام الانقلاب العسكري المصري 1952، والذي تزامن مع حركة تأميم النفط التي قام بها رئيس الوزراء محمد مصدق في إيران، والذي دعمه النظام المصري الجديد، مما اضر بالعلاقات بين البلدين، بعد فشل مصدق وسجنه ووضعه تحت الإقامة الجبرية.وأيضاً بعد الدعم الذي قدمه نظام الشاه لإسرائيل في الصراع العربي الإسرائيلي، وسطوع نجم عبد الناصر ومشروع القومية العربية بوصفه المنافس الأقوى لمحاولات إيران التوسعية في ذلك الوقت.حتى انهيار المشروع الناصري ونجاح الرئيس الأسبق أنور السادات في استمالة نظام الشاه ضد إسرائيل، وانتهت تلك المرحلة بقيام الثورة الإسلامية، والتغيرات الجذرية والتصفيات الأمنية والسياسية التي مارسها النظام الإيراني ضد فلول النظام الملكي.ومع هذا الحدث الثوري بدأ منعطف جديد في تاريخ العلاقات بين مصر وإيران، لم يطرأ عليه تغير سوى بعض المحاولات التي تمت في عهد الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي، مع النظام المصري المنهار، والتي انتهت بالفشل بسبب عودة المسار السياسي في إيران إلى حالة الجمود والتعصب في عهد الرئيس أحمدي نجاد.
فالصراع المصري الإيراني كان ومازال يعتمد على شقين رئيسيين، وهما الحالة السياسية الداخلية، خاصة في ظل التأجج الثوري الذي يطرأ على البلدين من آن لآخر، وما ينتجه من خطاب سياسي يتسم أحياناً بالغزل وكثيراً بالمنافسة، والثاني هو الدور الإقليمي للبلدين الذي يصحب الحركات الثورية، وما يستتبعه من نفوذ سياسي، بداية من المشروع الناصري القومي، وصولاً للدولة الإسلامية كمشروع سياسي مطروح بقوة منذ قيام الثورة الإيرانية.وفي ظل غياب الدور المصري خلال السنوات السابقة أصبح المشروع الإيراني بلا منافس حقيقي على الساحة السياسية الإقليمية والشرق أوسطية بشكل عام، والذي بدأ بمبدأ تصدير الثورة في بداية السبعينيات، وصولاً للهيمنة الإيرانية الملحوظة على مختلف الساحات السياسية العربية في لبنان، وفلسطين، والخليج العربي، والعراق، والجماعات الإسلامية في منطقة المغرب العربي وإن قوبلت بسياق ثقافي وحكومي أجل من الهيمنة الإيرانية بشكل نسبي، فدائماً الأطماع الإيرانية ليس لها حدود أو سقف طموحات يستوعب التطلعات الثورية التي لا تنتهي.
وفي ظل الانتفاضات الشعبية العربية والتي بدأت بتونس وتلتها مصر، وجد النظام الإيراني فرصته الذهبية بأن يعرض نفسه كمخلص بديل للأنظمة الفاسدة التي كانت تتربع على الساحة العربية، على افتراض عدم فساد النظام الإيراني، فاستخدم الدعاية الإسلامية خاصة مع الأحداث المصرية في استباق سياسي يعطي انطباعاً بأن الثورة المصرية جاءت بأيدلوجية إسلامية، وأسس ذلك الانطباع محاولات التيارات الدينية في الداخل المصري أن تفرض هيمنة اجتماعية وسياسية على أحداث ما بعد الثورة، في ظل العلاقات الأصيلة والتاريخية التي يتمتع بها الأخوان المسلمون مثلاً مع إيران الإسلامية منذ مرحلة السبعينيات أو قبل ذلك بقليل، و الأمر لا يقتصر فقط على الأخوان كفصيل سياسي له حضوره على الساحة المصرية، فمشروع الدولة الدينية الإيرانية ألهم العديد من الجماعات الإسلامية الحركية مثل الجماعة الإسلامية، والتي كانت تتلقى دعماً مباشراً من النظام الإيراني منذ مرحلة اغتيال السادات، وصولاً لوجود بعض عناصرها في إيران إلى الآن.وبالتالي أصبحت الساحة السياسية المصرية مترعاً للرغبات التوسعية الإيرانية، لمد نفوذها إلى مصر على أهمية دورها الإقليمي والسياسي ومنطقة المغرب العربي بشكل عام.
وبالتالي يصبح من غير المنطقي أن تتوجه السياسة المصرية بثقلها لتوطيد علاقات سياسية مع النظام الإيرانية الحالي، بالغزل السياسي رفيع المستوى، في محاولة من الحكومة المصرية المؤقتة أن تداعب أحلام بعض التيارات الدينية في الداخل المصري، بعودة العلاقات مع نظام ثيوقراطي يشكل رمزية هامة في تاريخ تلك التيارات.دون الوضع في الاعتبار أن الدبلوماسية الإيرانية قادرة على استغلال الأوضاع السياسية والاجتماعية لتحقيق مصالح مباشرة ومحددة قد تخالف المعلن في الخطاب السياسي، فرغم الدعم الشكلي الذي قدمته إيران للثورة المصرية، إلا أنها قامت بقمع كل حركات الإصلاح في الداخل وبشكل قمعي، بل أن النظام الإيراني يمارس كل أشكال الإقصاء على الأقليات الدينية والعرقية في الداخل، بداية بالسنة والبهائيين والبلوتش..وغيرهم، فالأقليات في إيران تشكل ما يزيد عن 48% من إجمالي الطبيعة السكانية.
بالتالي يقع النظام المصري المؤقت في مفارقة لا تليق بالحالة الثورية المصرية، فبدلاً من أن يقدم الدعم السياسي للحركات الإصلاحية في إيران، في سياق دعمه المفترض لكل محاولات التخلص من النظم الديكتاتورية تحت أي مسمى ديني أو سياسي، قرر أن يبادل النظام في إيران غزلاً لا يليق بمكانة مصر ودورها المنتظر، دون مراعاة للأبعاد السياسية والإقليمية التي تمارسها إيران في المنطقة بشكل عام، ظناً منه أن إيران ستكون بوابته الجديدة لاستعادة دور مصر الإقليمي، وهذا ما لن يسمح به النظام الإيراني دون تحقيق مكاسب من الميوعة السياسية التي تمر بها مصر حالياً.وبالتالي سيكون من الأفضل تأجيل تفعيل تلك العلاقات حتى تكتمل المنظومة السياسية المصرية وتستعيد ما كان ينقصها من دور إقليمي، هذا شريطة أن يستمر الوضع السياسي في إيران على نفس الوضعية التاريخية خلال الفترة القادمة، وهذا ينقلنا إلى النقطة الأخيرة.
فرغم ما يبديه النظام في إيران من تماسك خارجي، إلا أنه أصبح يعاني من تمزقات داخلية عميقة، خاصة في ظل حالة الصراع بين المؤسسة العسكرية، ومؤسسة الولاية، أي بين أحمدي نجاد، وآية الله خامنئي، كأهم منظومتين حاكمتين في إيران الآن، ومحاولة العسكر في سياق مقدس السيطرة على الوضع الراهن بكافة أشكاله السياسية والاقتصادية، وتزداد شراسة مع قرب انتهاء فترة رئاسة نجاد، والتي بدأت في 2009 وستنتهي في منتصف عام 2012، ومحاولات نجاد أن يؤسس لسلطة العسكر ليحافظ على مكتسبات فترتيه، أمام سلطة رجال الدين، فبنهاية عام 2012ستبدأ إيران معركة رئاسية جديدة، وسيكون أمام النظام طريقين إما أن يطرح وجه أكثر ميلاً للإصلاح السياسي ليحتوي الغضب الشعبي الذي قارب على الانفجار سواء من جانب الحركة الإصلاحية أو الأقليات التي عانت في عهد نجاد أكثر من غيره، وبالتالي سيتمكن النظام أن يحتوي هذا الغضب حفاظاً على وجوده، أو أن تستمر سطوة العسكر، ليظهر لنا وجه أكثر تشدداً من نجاد، وبالتالي ستنفجر الأوضاع إلى نهاية نظام بأكمله، وتتشكل مفصلية تاريخية جديدة في تاريخ إيران الحديث.
فمع تلك التغيرات التي ستطرأ قريباً على الساحة الإيرانية، ستتغير التوجهات الإقليمية، وستنسحب إيران داخلياً، خاصة وأن مطالب حركة الإصلاح أن يقلل النظام الإيراني من كثافة تواجده الخارجي، ونزيف الأموال الذي يُلقى في حجر شيوخ أو حركات دينية هنا وهناك.مما يؤدي بالبديهة أن تتغير السياسيات الدولية في تعالمها مع إيران، ومن ضمنها السياسة المصرية، التي من الممكن أن تكون قد استعادت دورها خلال المرحلة المقبلة، فالعلاقات المصرية الإيرانية الآن لابد وأن تتسم بحذر شديد، لما تمثله من خطورة على الشأن الداخلي، ودعمها لمشروع الدولة الدينية أمام دولة القانون والدولة المدينة التي تمثل ضرورة ملحة في المرحلة القادمة، خاصة مع العلاقات التاريخية للعديد من الجماعات الإسلامية مع النظام الإيراني رغم الخلاف المذهبي الظاهر، بل والأخطر العمق الشعبي الذي تمارسه إيران بالسيطرة على الجماعات الصوفية، في مقابل المد الوهابي السلفي في مصر، والذي يشكل خطراً آخر يحتاج إلى مزيد من الحسم.
فبداهة السياسة تقتضي أن العلاقات السياسية الفاعلة والدبلوماسية بكل مناورتها، لابد أن تقوم على ندية وتبادل مصالح، وتحديد احتياجات وأهداف واضحة، وكل تلك العناصر غير مكتملة في الواقع المصري الآن على الأقل، مما يحتم استبدال الغزل السياسي الذي لا طائل من وراءه، برؤية إستراتيجية أعمق من مجرد تحقيق مصالح داخلية وقتية، وإلا سيكون الطرف المصري هو الخاسر الوحيد في لعبة السياسة الإيرانية.

أكاديمي مصري
[email protected]