أريدك أن تأخذ صوتي معك (حوار على لسان زهرا بطلة فيلم رجم ثريا)
(سريمه عبادي 30 عامأً)، (آذر باقري 15 عاماً)، (زهرا رضائي 30 عاماً) (آذر كيري، 18 عاماً)، (زينب حيدري 38 عاماً)........
بلغ عدد المحكوم عليهم بالرجم في إيران طبقاً للمعلن من الإحصائيات الرسمية 69 شخصاً، ويصل في بعض الإحصائيات الدولية إلى 109. وذلك في الفترة ما بين (1981 نجاح الثورة الإسلامية، 2010 الأن)، وللنساء النصيب الأوفر. وصولاً لـ (سكينه آشتياني) التي نالت قضيتها تعاطفاً دولياً واسعاً، بعد اتهامها بالقتل والزنا، وحكم عليها بالرجم حتى الموت، ومازال الحكم معلقاً.
(ثريا منوتشهري) سيدة إيرانية حكم عليها بالرجم عام 1986، في قرية (كوه بايه) التابعة لمحافظة كرمان، أم لأربعة أطفال، ولدان وبنتان. مأساة قديمة انتظر العالم ما يقرب من عشر سنوات حتى يعلم قصتها من كتاب الصحفي الفرنسي الإيراني الأصل (فريدون صاحب جم)، الذي أصدره عام (1994) تحت عنوان (رجم ثريا)، والذي يحكي فيه قصة ثريا بعد أن سمعها مصادفة من خالتها (زهرا). وبعد أربعة عشر عاماً جُسدت تلك المأساة فيلماً يحمل نفس العنوان في أواخر عام (2008)، إنتاج وإخراج أمريكي، فمخرج الفيلم هو (cyrus nowrasteh)، وقد أخرج خمسة أعمال، على رأسهم المسلسل الأشهر في العالم العربي في فترة التسعينات (Falcon Crest 1990). وأغلب الممثلين هم من الإيرانيين المقيمين بالخارج، وأهمهم (شهره آغداشلو) الممثلة الإيرانية التي رشحت للأوسكار عام (2003).
الفيلم جسد مأساة ثريا كما وردت في كتاب (فريدون)، مضيفاً أبعاداً رمزية تليق بالصناعة السينمائية للمأساة، وقد أثار العديد من ردود الأفعال ليس فقط في إيران التي أنكرت الحادثة من أساسها، بل وفي البلاد العربية كذلك، حيث أُعتبر الفيلم محرضاً ضد الإسلام أو تحديداً ضد حد من الحدود التي اُشتهرت بإسلاميتها. والتي ما زالت بعض البلدان الإسلامية تنص عليها في قوانينها وتطبقها في الساحة الاجتماعية.
فثريا ضحية مؤامرة تمت بين زوجها (علي)، والملا (حسن)، وعمدة القرية (إبراهيم)، لصالح علي الذي أراد تطليقها ليتخلص من عبئها الاقتصادي، خاصة و هو يستعد للزواج من فتاة تبلغ أربعةعشر عاماً. فيتم اتهامهما بالزنا، وتنتهي حياتها تحت أحجار بقية أهل القرية. وبعيداً عن الصخب الذي صاحب القصة وتجسيدها، وما أثارته من نقاشات دينية أو سياسية أو غيرها، إلا أنها تظل مفتتحاً لساحات الموت التي لا تنتهي في إيران.
ـ ثنائية الجنس والموت:
(كل الرجال سواء أمنحيهم الطعام والفراش ولن يحتاجوا منكِ شيئاً أخر):إحدى نساء القرية
هناك رابط خفي ما بين الجنس والموت، فكما بدأت حكاية (سكينة آشتياني) بمقتل زوجها، وما أثير بعد ذلك من اتفاقها مع عشيقها لتتخلص من زوجها، ثم اتهامها بالزنا، والحكم عليها بالقتل رجماً. تبدأ أحداث ثريا، حينما يلومها الجميع بوصفها مقصرة في حق زوجها في الفراش، وأنها كفت عن طاعته فيما يرغب. لتكشف ثريا عن صدرها المليء بالكدمات، معلنة أنه لا حق لزوجها فيها بعد اليوم.
تمتد تلك العلاقة الجدلية بين الجنس والموت، وكأنها الخيط المحرك للأحداث، ففي حدث مفصلي يعرض عليها الملا حسن زواج المتعة، بعد أن تقبل التخلي عن نفقاتها ونفقة بناتها إذا قبلت طلاقها من علي، وحينما ترفض ثريا، يتوعدها حسن إلى نهاية الموت. ذلك الملا الذي تكشفه نظراته الجنسية الشاذة لطفلة تعمل في منزلة، هي نفسها أصبحت تحمل نفس هذا الرمز الجدلي، فبوصفها موضوعاً جنسياً مسكوتاً عنه في الأحداث، أصبحت هي رسول الموت في نهاية الفيلم، فهي من حملت رسالة العمدة (إبراهيم) إلى ثريا و زهرا خالتها، والتي يعلن فيها قراره والملا حسن برجم ثريا.
ذلك الشذوذ الجنسي الذي يمارسه الملا حسن، نجد انعكاسه ثانية في رغبة زوج ثريا الذي يعمل في الحرس الثوري أن يتزوج بفتاة عمرها أربعة عشر عاماً، على شريطة أن يساعد والدها المحكوم عليه بالإعدام من قبل حكومة الثورة في الفرار. فطمع علي الجنسي يظل مصاحباً للموت. فالشخصيات الرئيسية تظل محافظة على هذا الخيط للنهاية، خاصة مع ظهور (هاشم) ذلك العامل البسيط الذي توفيت زوجته، فيقترح الملا حسن وعلي(زوج ثريا) أن تعمل ثريا لديه، إيذاناً بحبك المؤامرة ضدها، فموت زوجة هاشم كان السبب المباشر في اتهام ثريا بالزنا مع هاشم، والذي بالطبع أعفي من الحكم بالرجم، للتواطؤ معهم من جانب، ولأنه أرمل يعني غير محصن فلا ينطبق عليه قانون الرجم من جانب أخر.
فالفيلم رغم تكويناته البسيطة ظل ممسكاً بتلك الجدلية، ليكشف الجانب الفاضح في المجتمع الإيراني، فرغم ما يمثلة الرجم من فجيعة اجتماعية في مجتمع ذا رصيد حضاري طويل مثل إيران، إلا أن مقاومة المجتمع له تكاد تكون معدومة. فأغلب الدراسات التي تعاملت مع تلك الظاهرة لم تُكتب داخل إيران، أي أنها رؤية خارجية للواقع الإيراني الداخلي، لا تعبر عن التأثيرات الاجتماعية. ولكن قد يعود هذا الصمت اللامتفق عليه في العقلية الإيرانية، لما يمثله فعل الرجم من إدانة أخلاقية ودينية، تصيب الأسر التي ترجم منها النساء، بالإضافة لحالة التقديس التي يصبغ بها النظام الإيراني أفعاله. وبالتالي يتوحد مفهوم العيب الاجتماعي مع المقدس الديني أو الحرام الذي يصل في نهاية الخيط بأن السلطة هي ظل الله وتحكم بالنيابة عنه هذا العالم، أي العقاب الأخروي أو الموت بشكله الملموس.
سلطة الدين ودين السلطة:
(إنه قرآن الله):أحد رجال القرية قبل أن يلقي بالحجر على ثريا
رغم أن القرآن يخلو تماماً من حد الرجم بشكل مباشر، ولكن الاحتجاج كان بالسنة النبوية، سواء في السياق السني أو الشيعي، فحادثة الرجم قد وقعت في العهد النبوي. وكان لهذا ظروفة التاريخية الخاصة، ولا يذكر لنا التاريخ الإسلامي أن هذا الأمر طبق بشكل يستدعي الانتباه، أو بالكثافة التي يطبق بها في العصر الحديث. سواء في إيران أو غيرها. فقانون رجم الزاني لم يدخل التشريع القانوني في إيران إلا بتعديلات قوانين العقوبات التي تمت في عام (1982)، والتي تنص صراحة في موادها (91، 94، 95) على أن حكم الزنا للمحصن أو المحصنة هو الرجم، بشهادة الشهود الأربعة المنصوص عليهم قرآنياً، أو بالاعتراف. أي أن الحكومة الإسلامية قررت أن تقيم شرع الله مما يمنحها سلطة مطلقة، خاصة وأن القانون يعطي للقاضي الحرية في تطبيق الرجم أو أي حكم تعزيري أخر يراه مناسباً، فالقاضي له سلطان مطلق على من يتبعه في إيران. فيكفي علم القاضي لتنفيذ حد الزنا، بالرغم من استحالة تطبيق فكرة الشهود الأربعة بشكل واقعي.
أحداث الفيلم تطرح شخصية الملا حسن بوصفه من الفاسدين المحكوم عليهم بالسجن في العهد الملكي، وخرج من السجن لينضم لرجال الدين، ويلبس ثوب القداسة والسلطة ويُعيّن قاضياً على بلدة ثريا، فالمجتمع الإيراني تحول في هذه المرحلة ليقدس كل من يرتدي ملابس رجل الدين، أياً كان أصله، بل قد ينسى أو يتناسى ذلك تماماً. ولكن يظل (علي) أو رمزية السلطة هو العالم بحقيقة الملا حسن، بوصفه كان من ضمن المسؤولين عنه في فترة سجنه. فدائماً هناك تواطؤ بين السلطة والدين، لتكتمل مأساة ثريا.
فرغم إعلان الإيراني في عام 2003، أن حكم الرجم قد تم إيقافه، ولكن الأحداث بعد ذلك أثبتت العكس، فعدد الذين تم تنفيذ حكم الرجم فيهم يتجاوز الثلاثين منذ بداية هذا التاريخ، وصولاً (لسكينة أشتياني)، أي أن الحكم مازال قائماً للأن، بل أن أحد فقهاء مجلس الرقابة على الدستور (غلام رضا رضواني) قد صرح أنه لا بديل لحكم الرجم بوصفه حكماً إلهياً، حتى وإن لم يرضي الجمهور. فدائماً ما يتم استغلال سلطة الدين، لتمرير دين السلطة.
فلرجل الدين هيبته وقدسيته المأخوذة من قيمة الدين ذاته، تلك الفكرة نجدها واضحة للغاية في (رجم ثريا)، بل أنه في عام (2004)، قد تم إنتاج فيلم إيراني تحت اسم (مارمولك ـ السحلية)، ومنع هذا الفيلم من العرض في إيران، ثم تمت إجازته بعد ذلك، يتناول قصة سجين قرر الهروب فارتدى ملابس رجل دين وجدها مصادفة لتنفتح له الدنيا، مابين خائف من زيه أو مقدس له. فبطل الفيلم اكتسب سلطانه من قدسية ملابس أو ظاهر الدين.
رغم ذلك يظل الرجم يثير جدلاً واسعاً في أوساط النخبة الإيرانية، فرجال السلطة يؤيدون وجوده في التشريعات، ويعملون على تطبيقه كلما سنحت لهم الفرصة، وفي سياق أخر، نجد بعض المفكرين المستنيرين، أمثال (محمد مجيد شبستري) الذي يُعد من المجددين في الفكر المذهبي والديني وبشكل عام، يعتبر أن فعل الرجم لا يمت للدين بصلة، طالما أنه لم يذكر صراحة في القرآن، مشككاً في صحة الأحاديث المنسوبة للنبي في هذا الشأن. وأن قتل الأطفال بحجة الرجم، فكرة غاية في الوحشية.
رغم أن هناك من يتناول قضية رجم الفتيات الصغار اللائي دون الثامنة عشر، بوصفها موضوع طبيعي، فسن المحاسبة القانونية يبدأ من سن الخامسة عشر في إيران، وبالتالي يصبح من يبلغ هذا السن مسؤولاً أمام القانون عن أفعاله. وبوصف أن المجتمع الإيراني شاب بطبيعته فعدد الشباب يتجاوز 80% أصبح من الضروري بداية المسؤولية القانونية من سن صغير، حتى يسهل السيطرة عليه.
القمع الذكوري ـ الخوميني حاضراً في محفل الموت:
(إذا اتهمت الزوجة زوجها بالزنا فعليها أن تأتي بالحجة، وإذا اتهمها زوجها عليها أن تأتي بدليل براءتها):إبراهيم عمدة القرية
ينص قانون العقوبات في إيران، أن أول من يلقي بالحجر على الزانية هو الحاكم أو ولي الأمر، يليه الشهود إذا توافر لهم ذلك. فالسلطة هي التي تمنح للقتل مشروعيته.
في رجم ثريا، صورة الخوميني حاضرة في مشاهد الموت بشكل ملحوظ، أي رمزية السلطة المطلقة، فالمشهد الأول في الفيلم تذهب (زهرا) لمكان جثمان القتيلة (ثريا)، لتلملم بقايا عظامها بعد أن نهشها الكلاب، وتغسلها في النهر وتعيد دفنها من جديد، فيطل الخومني بصورته على المشهد ككل، وكأنه الشاهد والمتسبب الوحيد في كل هذا الدمار الإنساني.
تتكرر صورته من جديد، و العمدة إبراهيم، وعلي يشرفون على حفر حفرة ثريا التي سوف تغطيها إلا رأسها، استعداداً لرجمها، فيده فوق أيديهم في جريمتهم، كما ترمز الصورة المجسمة للخوميني، في الوقت الذي يظهر فيه الملا حسن وهو بين يدي الحلاق ليهذب له لحيته. وحينما تحين اللحظة الموعودة تأتي ثريا لتخلع عنها عبائتها، وتُلقى في مستقرها. رغم أن هذا المشهد أتى خارجاً عما هو معتاد في تنفيذ حكم الرجم، فالأصل كما نص القانون، أن يلف المرجوم في كفنه، ليغطي حتى رأسه، ثم يلقى في الحفرة التي من المفترض أن تغطي صدره إن كانت إمرأة، وخصره إن كان رجلاً. ولكن المشهد الأخيرة وهو أطول مشاهد الفيلم، يجسد مشهد الرجم، قد أتى ملتزماً بضرورة أن تكون الحجارة الملقاة من الحجم الصغير حتى لا تقتل مباشرة، إلا بعد رحلة طويلة من العذاب الذي بدا لا منتهياً.
أول الحجارة كانت من يد الأب الذي وافق بدون نقاش على رجم ابنته ثريا، وهذا بديهي فهو من سلمها وهي صغيرة لرجل عجوز لتعمل عنده، فاستغلها جنسياً ولكنه استطاعت أن تحافظ على نفسها لتظل عذراء. تلاه الزوج، ثم الشيخ حسن، وصولاً للأبناء، المحملين برمزية غاية في الأهمية.
فعلي قد وعد ابنيه أن يأخذهما إلى المدينة، ليعيشا هناك بعد زواجه، وليلتحقا بالحرس الثوري، ليصبحا مثل أباهما، في مقابل أن يترك ثريا وأختيهما في القرية، مما أثار الولدين على أمهما، وسارعا بالتخلص منها ليتمكنا من الحياة في المدينة. فالمستقبل دائماً للذكور، (فهذه هي دنيا الرجال) كما قال علي لولديه. وينتهي المشهد بصورة الخوميني كما بدأ بها.
فالأنثى في إيران تعاني كما غيرها في المجتمعات الشرقية، من سلطة الأب والزوج وحتى الأبناء، مع إضافة سلطة رجل الدين، أو سلطة الدين ذاته حين يوظف للصالح الذكوري فقط. فتظل المرأة من الوجهة الدينية ذات وظيفة واحدة وهي وظيفة الإمتاع لا أكثر، فأفضل النساء على الإطلاق هي من تلبي الحاجة الجسدية لزوجها، كما ورد في بعض المراجع الدينية الشيعية أو السنية (ولنا في هذا وقفة أخرى).
مصادفة البداية وعبثية النهاية:
(تعالوا لتشاهدوا الاحتفال بعد الصلاة): المهرج في مشهد الرجم
القصة بأكملها مبنية على مصدافة وصول الصحفي الفرنسي لقرية ثريا بعد أحداث الرجم بيوم واحد، بسبب تعطل سيارته أمام القرية، وذلك كما روى (فريدون صاحب جم) في كتابه. مجرد صدفة أوصلت دماء ثريا للعالمية، بعد أن قابلته (زهرا) وروت له ما حدث، في تسجيل صوتي أصرت عليه، بحجة أن صوت المرأة ليس له قيمة هناك.
ولكن الغريب هو نهاية مشهد الرجم، ففي أثناء عملية الرجم، تقطع الأحداث سيارة تحتوي مجموعة من المهرجين الجائلين، مستغلون تجمهر أهل القرية ليعرضوا عليهم بعض فنهم، ولكنهم يكتشفوا حقيقة الأمر، فيجلسوا في نهاية التجمهر، وقد لونوا وجوههم، يدقون الطبول يشكل تصاعدي، وكأننا أمام طقس قبلي قديم، ليمنحوا المشهد مزيداً من الرهبة والعبث في أنٍ واحد. وحينما تفيض دماء ثريا، وينفض أهل القرية حامدين الله على تخلصهم من الزانية، شاكرين الشيخ حسن على عظيم صنعه، يأتي المهرج ومساعده القزم ليغطي جثمان ثريا بعد نهاية هي مصير منتظر لكل نساء القرية. ثم تقام الاحتفالات في كرنفال احتفائي بالقتل، والسادية بأجلى صورها ضد ثريا، ليكتمل العبث.
أكاديمي مصري
ahmedlashin@hotmail. co. uk
التعليقات